ـ ترجمة وتقديم: د.سارة حامد حوَّاس ـ
تعرَّفت في البداية بالشاعر الماليزي رچا أحمد أمين الله بواسطة الشَّاعر المصري الشهير أحمد الشّهاوي عندما كان مُشاركًا في مهرجان شعري عالمي بماليزيا نظَّمهُ الشاعر رچا أحمد في عام ٢٠٢٣ وكان بعنوان ”مهرجان آر إيه للشعراء والكُتَّاب والقُرَّاء الدولي ” (RAIPO).تحت شعار ” الشعر والسلام والإنسانية” فمن دوافع إقامته تلك المهرجانات الشعرية العالمية إيمانه بضرورة تعزيز وتقدير الأدب عن طريق تبادل المعرفة والأفكار المختلفة بين شعراء العالم والاحتفاء بتنوع التقاليد الأدبية ، وقد ترجمتُ في أثناء المهرجان قصيدتين للشاعر رچا أحمد وأرسلتهما إليه وفرح كثيرا على وعدٍ بأنني سأُكمِل ترجمة العديد من قصائده الأخرى ،وأهداني كتابه ”الاستمرارية” Continuum الذي قرأته واستمتعت به كثيرا ،فهو بمكانة تعريف بشاعر يكره الظلم ،ويواجهه بالكلمة ،إذ هو شاعرٌ يؤمن بوهج الكلمة وتأثيرها على قارئيه وساميعه ،وبرغم أنَّه دفع ثمن مواجهته للظلم فهو ممتن لتلك التجارب، لأنها جعلته أقوى وأعادته إلى إحدى هواياته الأصلية ،وهي الشِّعر.
وقد سبق أن ترجمتُ وقدمتُ أصواتا شعرية آسيوية إلى القارىء المصري فقد قدمتُ وترجمتُ إحدى عشرة قصيدة للشاعر البنغالي أمينور رحمن في معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الخامسة والخمسين ،كما قدمتُ وترجمتُ عشر قصائد للشاعرة الهندية ريشما راميش أيضا في معرض القاهرة الدولي للكتاب في الدورة ذاتها ،وذلك في ندوتين منفصلتين مدة كل منهما ساعة ونصف السَّاعة ، وربطني بهما بعد ذلك صداقة عميقة أعتز بها كثيرا حيث قابلتهما في مهرجان مينينج باو الشعري الدولي بأندونيسيا الذي عُقد في مايو ٢٠٢٤ ،كما تعرفت هناك بالعديد من الشاعرات والشُّعراء من آسيا وأمريكا والعديد من مختلف بلدان العالم.
الشاعر الماليزي رچا أحمد أمين الله ،أو ما يُعرف أكثر باسم”باك رچا” ولد في إيبوه بماليزيا في عام ١٩٥٥، وتلقَّى تعليمه في كلية الملايو كوالا كانجستار(MCKK).واستكمل دراسته في الإعلام بمعهد التكنولوچيا في ماليزيا ،ثم أكمل دراسته بعد ذلك في القانون بجامعة لندن بالمملكة المتحدة.
في عام ١٩٦٦، أسس رچا أحمد ”مؤسسة فنون بيراك” (Yayasan Kesenian Perak) بالتعاون مع كُتَّاب ونشطاء فنيين ماليزيين.
وما زال يشغل رچا أحمد منصب رئيس المؤسسة كما أنَّه عمل بوصفه ناشرًا ومُحرِّرًا للكثير من الكتب في النقد الأدبي والفني،وفي عام ٢٠٠٤ صدرت له مجموعة قصائد بعنوان”سفينة الروح” Soulship والتي حظيت بتقدير كبير من قِبل النُقَّاد والكُتَّاب ومن إصداراته الأخرى ‘’العقل المقهور” Minda Tertawan و”المفكرون والمثقفون الجُدد والسُلطة” Intelektual ,Rausyanfikir Dan Kuasa.
أمَّا عن مُقدمة كتاب ” الاستمرارية” Continuum فكتبها الشاعر والروائي الماليزي الشهير البروفيسور زكريا علي Zakaria Ali الذي تعرفت به أيضا وتحدثت معه عبر الهاتف محادثة طويلة عن الشعر ،وعن فترة دراسته في جامعة هارفارد بالولايات المتحدة الأمريكية ،وقد أهداني أيضا كتبًا له في الشعر والرواية في أثناء المهرجان ووعدته بترجمة بعض قصائده إلى اللغة العربية.
تحدَّث الشاعر الماليزي زكريا علي عن الكتاب قائلا:”هذه القصائد المُختارة تتناول قضايا الصداقة والماكيافيلي والمبادىء، وعن العالم كمسرح والوجوه المُتعددة للمُهرجين والصفوف الأمامية والطاعنين في الظَّهر والاحتفاء بالرجل العادي وقوى الشِّفاء في الطبيعة ونديم البطل المجهول في تاريخ الملايو ،وعن توجيهات سوفوكليس وت .س. إليوت وبابلو نيرودا ، والفقدان الواضح للأمل ودهاء السياسيين ، وخيانة القادة”.
وفي سياقٍ آخر تحدث الشاعر الماليزي زكريا علي عن قصائد الشاعر رچا أحمد في كتاب “الاستمرارية” قائلا:”لا أستطيع أن أمنع نفسي من الشعور بأن هذه القصائد ذات الاستعارات البسيطة غالبًا ما تُقال بارتجالٍِ في لحظة اندفاع فإنها تعتمد كثيرًا على منطق الأفكار الأولى ،مع مراجعتها فقط من أجل الوضوح والبعض منها لم تخضع للمراجعة على الإطلاق”.
في أثناء قراءتي وترجمتي لقصائد رچا أحمد، وجدت أن لغته بسيطة عفوية ، يتحدث بصدق وصراحة ورهافة غير آبهٍ بردود فعل أو تقييم ، شاعرٌ حرٌّ في أفكاره وموضوعاته وكلماته، لا تقيده شروط ولا توقفه آراءٌ مُضادة بل بالعكس تزيده رغبةً في التعبير أكثر والكتابة الشعرية أكثر وأكثر، لديه روح عنيدة،ولكنها عنيدة من أجل الحق ودفع المظالم عن الضعفاء ، قصائده حُرَّة برية لا تلتزم بقواعد القافية والبحور ، فشعره حُرٌ كروحهِ ،يستخدم الحكمة في كتابته الشعرية وبعضا من النصائح وبث الأمل في نفوس المظلومين والضعفاء ولكنها حكمة محببة إلى النفس ، وليست مواعظ مخصصة للمنابر ، تعطي الأمل لمن لا أمل لا ، والحب والحنو لمن لم يشعر بهما من قبل.
الشاعر رچا أحمد نموذج للشاعر الذي يؤمن بأن لديه رسالة في الحياة لا تكمن فقط في إلقاء أشعار رنَّانة تصفق لها الجماهير فحسب ، بل تكمن في التأثير ،أي يهتم كثيرا بتأثير الكلمة على القارىء والمستمع وعن قدرة الشاعر في تغيير مسار إنسان بسيط عبر كلماته وقصائده. فهو كما قال الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي(1999-1926) من ديوان ” أباريق مُهشَّمة” :”كَلماتنا ستَدكُّ جُدرانَ السُّجُونْ وتُضيء للموتى مَنازلَهُم وتكتسحُ الطُّغاة بُحروفها المُتوهِّجات.”
وهنا أربع قصائد من شعر رجا أحمد أمين الله:
*ناشرةُ الرِّيحِ(The Spreader of Wind)
تَندَفِعُ الرِّيحُ
تَصفَعُ وجْهِي.
تَضرِبُ الأموَاجُ
الشَّاطِىء
ولكِن بِصراحةٍ
من الذي يَقُولُ :
إذا كُنتَ تَخَافُ الأمواجَ
لا تَبنِي بَيتَكَ على الشَّاطِىءِ.
وماذا لو:
أنَّ أموَاجَ المَدِّ
والعَواصِفَ الرَّعديةَ
تُؤخَذُ من سُلُوكِ النَّملِ الأبيَضِ؟
”فهؤلاء الذين يزرَعُونَ الرِّيحَ
يَجنُونَ الحَصَادَ”.
نَاشِرُو الرِّيحِ
تَشَتَّتوا سَرِيعًا
بعد ذلك
لإنقَاذِ الرِّقابِ.
أمَّا أتبَاعُهُم والنَّاس العَادِيُّونَ
فقد بُهِتُوا
من المَآسي النَّاجِمة.ِ
*أيامٌ ضبابيةٌ (Cloudy Days)
أيَّامٌ ضَبابيَّةٌ لتَكوِيناتٍ جَميلةٍ
مُضِيئةٍ ومُذهِلَةٍ
بَعِيدًا هُنا
في الأعلَى
وبَعيدًا
في أسْفَلِ
المَناظِرِ الطَّبيعيَّةِ المُجرَّدةِ
والحُفَرِ
بينَ الخُضْروَاتِ الغَضَّةِ
في زاويةٍ من أرضِ اللهِ
تَنبَعِثُ من
مَشاهدَ مُعتِمَةٍ من العُقُولِ
مُرَكِّزَةً على
الفِكرَةِ المَادِّيَّةِ
المُتَحَرِّرةِ من
الاعتِبَاراتِ الإنسَانِية.ِ
*الاستمراريةُ(Continuum)
اجتِيَازُ الطُّرُق السَّريعَةِ والطُّرُقِ الجَانِبيةِ
والاِنخِفَاضَاتِ والمُرتَفَعَاتِ
والذِّهَابِ عَكسِ التَّياراتِ والمَدِّ والجَزْرِ
وفَيضٍ من متَاعِبَ وحُطَامِ سُفُنٍ
تَأتِي هَمَساتٌ مُلِحَةٌ
عن شَبابٍ ضَائِعٍ فُرَصٍ ضَائِعَةٍ
مَزِيدٍ من اِحتِمَالاتٍ مُنعَدِمةٍ في الاِستِمرَارِية.ِ
ثُم يَأتِي تَصعِيدٌ مُعَاكِسٌ
مُردِّدًا مَنطِقَ رِحلَةٍ
مُستَوحَاةٍ من كلِّ تلك السَّنوات
باعتِقادٍ بَسيطٍ في الأَمَلِ
يُفَعَّلُ بالعملِ
والإيِمَانِ الأَقوَى باِستِمرَارِ الأَمَلِ.
ومِن بين حُطامِ السُّفِنِ،تَستَمِرُ الأحَلامُ والأمَلُ
أمَّا عن الأفعَالِ السَّابِقَةِ وتشَابُكِ المُثُلِ والتَنفِيذِ العَمليِّ
يَتَغَلَّبُ على المَتَاعِبِ والأشْواكِ المُتناثِرةِ دائِمًا.
*ضد النسيان (Against Forgetting)
ضِدَ نِسيانِ ذِكرَياتٍ وتَجرِبَةٍ سامِيةٍ
عبر شَبَكَاتِ الزَّمنِ
هُناكَ سَعيٌ دَؤُوبٌ لتَحقِيقِ الأحلَامِ والرُّؤى
رغم كُلِّ الأشوَاكِ والعَقَباتِ
يَخرُجُ من دَوائِر النَّارِ
من المتَاهاتِ
ينهَضُ مُنتَصِرًا دَافِنًا كل التَفَاهاتِ مخَاوف حُبٍّ ضَائعٍ وتَاريخٍ مُستَعَادٍ