(كش بريس/ومع) ـ لئن كان اسمها يحيل على “الفناء” و”الغياب الأزلي”، فإن لسان حالها ينطق بخلاف ذلك، كيف لا وهي التي تشهد على الدوام حركية دؤوبة، بل ظلت، على مدى قرون، تشكل مثالا حيا على الحيوية والدينامية والإقبال على الحياة، حتى قيل إن من لم تطأها قدماه وكأنه لم يزر المدينة الحمراء. إنها ساحة جامع الفنا، التي وإن تعددت ألقابها، حيث توصف تارة بـ”التاريخية”، وتارة بـ”الأسطورية”، وبـ”اللوحة الفنية الحية المفتوحة على السماء” تارة أخرى، فإنها كانت ولا تزال تمثل القلب النابض لمراكش، والحارس المؤتمن على تراثها اللامادي الإنساني، الذي تستمد منه هذه المدينة “الساحرة”، إلى جانب مآثرها ومعالمها التاريخية ومدينتها العتيقة ومناظرها الطبيعية الخلابة، إشعاعها الثقافي والسياحي على الصعيدين الوطني والدولي.
ولعل ذلك ما أوجزه عدد من المؤرخين وهم يصفون هذه “الساحة العمومية الفريدة من نوعها، والتي كانت تسمى قديما الرحبة”، مثل الحسن اليوسي، الذي وصف في كتابه “المحاضرات” حلقة كبيرة كان يحضرها لما كان طالبا في مراكش في القرن 17، بأنها “ساحة عمومية تجتمع فيها الحشود، تبحث عن متعة الحكي، والتزود بأفانين القول والنكتة والثقافة الشعبية المتنوعة وأصناف الموسيقى، والعديد من أنواع الفرجة”. فـ”ساحة جامع الفنا مدرسة عريقة، ومسرح مفتوح يجذب الناس من كل بقاع العالم، في مشهد نشوري، تتحرك فيه الأجساد مثل الموج أو كثبان الرمل المتحركة، كل يوم جديد، ساحة لا تعرف التكرار”. فليس من قبيل الصدفة إذن أن تبادر منظمة “اليونيسكو” سنة 2008 إلى تصنيف ساحة جامع الفنا تراثا ثقافيا للإنسانية، باعتبارها أول موقع يتم إدراجه في قائمة التراث الشفوي واللامادي للإنسانية، لاسيما أن هذه الساحة ظلت تشكل الفضاء الأمثل لتلاقي وتلاقح التقاليد الشفوية بمختلف تجلياتها وتمظهراتها.
وبالنظر لما تحبل به ساحة جامع الفنا من حمولة حضارية وثقافية عريقة، فقد شكلت، أيضا، مصدر إلهام لكتاب عالميين معاصرين، واستأثرت باهتمام العديد منهم، وخصصوا لها، من ثمة، حيزا في أعمالهم، في محاولة منهم لفهم وتفكيك الجانب الغرائبي والعجائبي في هذا الفضاء “الفرجوي”، والوقوف على مكوناته المتنوعة والمتفردة في أدق تفاصيلها. ومع أن هذه الساحة شهدت، بين الأمس واليوم، تحولات كثيرة وتغيرات كبيرة طالت العديد من الجوانب التي صنعت خصوصيتها وتميزها، فقد ظلت صامدة في وجه تقلبات الزمن، حيث حافظت على زخمها وعنفوانها، وعلى طابعها المتفرد، واستوعبت، في الوقت نفسه، مستجدات العصر، بل تكيفت معها وسايرتها بسلاسة ويسر.
وهكذا، تشكل المكونات التي تؤثث ساحة جامع الفنا لوحة ساحرة بألوانها المنبعثة ليلا من المصابيح المبثوثة في جنباتها، والألبسة التقليدية المعروضة في محلاتها، وتلك ذات الطابع المسرحي التي يرتديها منشطو الحلقات، فضلا عن الأطعمة اللذيذة والمتنوعة التي تعرضها مطاعمها المتنقلة، وتستميل زوار الساحة، سواء كانوا من ساكنة المدينة الحمراء أو من السياح المغاربة والأجانب، الذين يقبلون عليها بكثرة لتذوق نكهاتها والإبحار في أصالة وعراقة المطبخ المغربي، خاصة الأكلات المرتبطة بمراكش. وبكل عفوية، يقف زائر الساحة على التكامل الحاصل بين مكونات هذا الفضاء التاريخي، والمتمثل في ألوان الفرجة ذات الطابع الشعبي، من قبيل حلقات مروضي الثعابين والقردة، والحكواتيين والفرق الموسيقية، والألعاب البهلوانية التي يحتضنها هذا الفضاء، الذي يعكس عمق الحضارة المغربية، ويساهم في إغناء تراثها اللامادي والمادي والحفاظ عليه.
فمن حيث الفرجة والترفيه، تختزل الأهازيج التي تؤديها بعض المجموعات، كالروايس وعيساوة والطرب الشعبي والغيوان والحوزي وأولاد سيدي أحماد أو موسى، غنى التراث المغربي في شقيه اللامادي والمادي، فضلا عن الدور الهام الذي يلعبه الحكواتيون الذين يسافرون بجمهورهم في رحلة مليئة بالتشويق والإثارة، يتم خلالها سرد قصص تاريخية تتضمن مواقف بطولية، وأخرى يغلب عليها الطابع الهزلي.
ومن بين منشطي الساحة، هناك، أيضا، النقّاشات اللواتي يقدمن خدماتهن لزائرات جامع الفنا، اللواتي ينقشن على أيديهن رسومات وأشكالا يبدعن فيها. وبذلك يجد السواح المغاربة والأجانب، على حد سواء، أنفسهم أمام “لوحة تشكيلية” متناغمة الألوان ومتكاملة الأدوار، تمتزج فيها الإيقاعات والأهازيج، إلى درجة تجعلهم في حيرة من أمرهم في اختيار الحلقات أو العروض التي يمكنهم مشاهدتها والاستمتاع بفقراتها.
وفي هذا الصدد، أوضحت رئيسة جمعية “حرفيي الحلقة والفرجة والتراث وجميع الفنون بساحة جامع الفناء”، مريم آمال، في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء، أن هذه الساحة رغم فقدانها معظم روادها، فإن “الحلايقية” الجدد أدخلوا بعض التحسينات على فن الحلقة لتقديم منتوج جديد للفرجة. وأضافت آمال أن أهم العروض المقدمة بالساحة تسعى إلى تقديم فرجة وفكاهة ذات مضمون محترم، داعية إلى الحفاظ على الطابع الأصيل لهذه العروض وأشكال الفرجة عموما حتى تبقى في مستوى تطلعات الزوار.
من جهته، وصف رئيس جمعية “رواد ومعلمي الطبخ المغربي الأصيل بساحة جامع الفنا”، عبد الغني إفليليس، في تصريح مماثل، الأجواء بهذا الفضاء التاريخي بـ”الرائعة”، حيث يعيش على إيقاع إقبال الزوار من مختلف الجنسيات بكثافة، والذين يقضون أوقاتا ممتعة وهم يتنقلون من حلقة إلى أخرى، قبل أن ينتهي بهم المطاف على مائدة أحد المطاعم المتنقلة، البالغ عددها 64 “جلسة” لتناول أطباق وتذوق أكلات متنوعة، من قبيل “الطنجية” و”الطاجين” و”باولو”.
من جانبها، أعربت سائحة من بريطانيا عن إعجابها بمظاهر الأصالة التي تميز ساحة جامع الفنا، وبالحركة التي تعرفها، وكذا بروح الفكاهة والمرح التي يضفيها عليها صناع الفرجة في عدة حلقات رائعة، يتوافد عليها سياح من كل بقاع العالم للانصهار مع هذه المكونات في مشهد بهيج ومتكامل. وفي إطار الجهود المبذولة لصون هذا الإرث العريق، تم في فبراير الماضي، بساحة جامع الفنا “الأسطورية”، تدشين متحف التراث اللامادي، الذي يتيح للزوار اكتشاف تاريخ الساحة، وتثمين الحلقة ومختلف الفنون، وتحسيس العموم بالأهمية الكبرى التي يكتسيها هذا التراث المشترك قصد الحفاظ عليه ونقله إلى الأجيال المقبلة.
وتم تصميم المتحف كامتداد للقلب النابض لمراكش، حيث يأتي ليعزز العرض المتحفي بالمدينة الحمراء، ويساهم في الحفاظ على إرثها العريق والعالمي وتعميمه، لاسيما أنه يشكل جزءا لا يتجزأ من الذاكرة الجماعية. كما تم إطلاق مشروع لتهيئة ساحة جامع الفنا، يندرج ضمن الأوراش المفتوحة بالبرامج التنموية بالمدينة العتيقة بمراكش، التي أعطى انطلاقتها الملك محمد السادس، وهو المشروع الذي حظي بتجاوب إيجابي وواسع من قبل التجار والحرفيين ومستعملي الساحة، الذين عبروا عن انخراطهم التام في هذه العملية، واستبشروا خيرا بنتائجها.