العودة الفِعلية، الشخصية، لجلالة الملك إلى مِنصة البرلمان، مُخاطِبا، أعضاءه، في افتتاح دورته الجديدة… تلك العودة عنوان للتَّجاوز النَّفسي لمرحلة جائحة الكوفيد. وإنه لأمر هام، ومُفْرح، أن تستعيد القواعد الدستورية طُقوسَها الملكية. إذ لا تُدار الدول فقط بالآليات الدستورية، الصَّارمة والباردة… تُدار بِها وبحيوية عراقة التاريخ وبدفء الالتحام الإنساني، كما دأب على ذلك جلالة الملك… وأمَّا تجاوُز الآثار الاقتصادية والاجتماعية للجائحة فقد كان ذلك هو جَوْهر الخطاب الملكي. تلك الآثار رافقتْها عواملٌ عِدَّة… الجفاف الذي “هبَّ” على البلاد… وعمَّقَتْها العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا بتداعياتها على العالم، الطاقية، التجارية والغذائية… وزاد من حِدَّتها إِهْمالٌ إداري، فضلاً على إحجام الرأسمال الخاص، الوطني على النهوض بالتحديات الاقتصادية المُؤَهَّل لها… سيجد المغرب نفسه أمام تحديات “مُناخية”… تحدي قساوة المناخ الطبيعي الذي يفرض صون الحق في الحياة، عبْر توفير الماء لكل المغاربة، وهو ثاني ضروريات الحياة، بعد الهواء… و”المُناخ الاجتماعي” الذي يُوجِب إحداث نَقْلة نوعية في الاستثمار، وهو العامل الضروري لتحريك وإثْمار الدورة الاقتصادية، المُنتجة للثروة الوطنية، للإنتاج الوطني، لمناصب الشُّغل…و…و… في انسجام مع موْقعه كقائد تاريخي للبلاد، وَجه جلالة الملك إلى تعبئة طاقات الشعب المغربي وكل مؤسساته السياسية، الحكومية والمدنية، التنفيذية والمنتخبة، ولكل قطاعاته الاقتصادية والاجتماعية، من أجل رفع مواجهة أخطار انحسار الأمطار، والانكماش الاقتصادي… في الحالتين، سيكون المغاربة أمام ضرورة التسلح، ليس وحسب بإجراءات وآليات، مؤسساتية، بل وأيضا، امتلاك ثقافة جديدة، بيئية واقتصادية، تَتَحقق في السلوك اليومي للمواطن، وتتجلى في الممارسة العملية للفاعل الاقتصادي… ثقافةُ يكون البعد الوطني هو جوهرها… حفاظا على ثروات الوطن وتنمية لها…
بهذا المعنى، كان الخطاب الملكي مُخَصِّبا للسياسة ومُوَلِّدا لمُفاعلاتها في الحياة المغربية، الاجتماعية، الاقتصادية والثقافية… على خط المشروع الملكي الإصلاحي والحداثي، المُتواصِل على مدى أزيد من عقدين… مجراه العملي، يتقدم، بتباطؤ، يتعثر… ثم يتجدد، يُراجَع، يُقوَّم ويُعاوِد النهوض، ليتقدم مستكملا إنجاز وترسيخ مساره… وذلك ما جعل من المغرب ما هو عليه اليوم… بلدٌ ناهض بمُقومات تنموية مُقنعة وواعدة… وبِدوْلة ذاتِ مِصداقية في المجتمع الدولي… أوضح تعبير عن ذلك هو مكانة الاحترام التي للمغرب في علاقاته الدولية… بحيث أنتجت له مكتسبات ديبلوماسية، فعالية ومردودية في علاقاته الخارجية… لها عائدات على أوراشه التنموية… وأيضا هي التي ترافع دفاعا على عدالة قضية وحدته الترابية، في علاقاته الثُنائية، وأساسا في الأمم المتحدة…
في الأمم المتحدة، وطبعا خارجها، تعكس القيادة الجزائرية تَكلسا في نسيج دماغها السياسي… لا بل شلَلٌ فيه يمنعها من تدقيق، وتجديد، “نَظَرِها” لمتغيرات الوضع الدولي… وخاصة، لما هي منشغلة به من قضيتنا الوطنية… تدخلات مندوب الجزائر في الأمم المتحدة تعكس فقرا سياسيا وجفافا في الأفكار… مما يثير الشفقة عليه… بحيث لا يحتاج إلى رد السفير عمر هلال… مَضيعة لوقته… السيد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش تكفَّل بالرد المُفحم على القيادة الجزائرية عبر تقريره الذي سيؤسس مجلس الأمن عليه قراره نهاية أكتوبر هذا….
إبراهيم غالي، رئيس جماعة البوليساريو، الذراع الانفصالي للقيادة الجزائرية والذي أسمته، هي نفسها، بنبطوش، ليس أحسن من المندوب الجزائري… لا بل أسوء، إذِ اقْتَرف ردا على تقرير الأمين العام، في رسالة مُوجَّهة إليه… أهم خلاصاته أن البوليساريو، وقبلها القيادة الجزائرية، ضِد قرارات مجلس الأمن وآخرها، القرار 2602، ولم يجد في تقرير الأمين أي فقرة يوافقه عليها، وبعد اتهامه بإهمال كل مزاعم جماعته و”بمحاباة” المغرب، يدعوه إلى العودة إلى ما قبل 1991… الرجل كتب في رده، إعلان انتهاء صلاحية جماعته وبَوَار ادعاءات القيادة الجزائرية… بالمجمل، الرجل، ردَّ على صراحة السيد غوتيريش بمَناحة… ضد الأمم المتحدة وضد المجتمع الدولي بأجمعه… لأن ما جاء في تقرير الأمين العام للأمم المتحدة، ليس إلا ما أبلغته به بِعثة المينورسو في المنطقة. وهي لم تلاحظ على المغرب أيَّ انزياح عن القرارات الأممية… ولاحظت مظاهر التأييد الديبلوماسي للمغرب في الداخلة وفي العيون… وهي رفضت لقاء قيادة البوليساريو في ما يُسمَّى “أراضي مُحرَّرة”، انضباطا لضوابط مهمتها… ورأت انتهاك حقوق الطفولة في المخيمات، كما لاحظت ما امتلأ به التقرير من نقد صريح لسلوك البوليساريو… بينما في الشق السياسي لتقرير الأمين العام، نجد ترجمة لقرارات مجلس الأمن، أي لتوافقات دولية، ختمت عليها الدول صاحبة الفيتو… ولأن بنبطوش مُصابٌ بعَيٍّ في البصيرة السياسية، لم يفعل إلا إثبات صدقية تقرير الأمين العام، فيما تصور أنه يعارضه أو ينْفيه… والأهم أن ذلك الرد إعلان للعالم على أن القيادة الجزائرية، وذراعها الانفصالي، يصدران عن “ثقافة” بَالِيّة وفي حالة شرود عن الحاجة الموضوعية للمجتمع الدولي في حل نزاع الصحراء. وقد ساعد المغرب على إنتاج ثقافة الحل، وقراراتها، عبر مقترح الحكم الذاتي… والمغرب يساعد المجتمع الدولي، أيضا، بمساره التنموي، بآلياته الديمقراطية والتشاركية، يطوره ويجدده باستمرار، وهو ما من شأنه أن يشكل مركز جاذبية، فعلية، في المنطقة، ولفائدة دولها وشعوبها، وعبرها لفائدة افريقيا… جاذبية للتعاون، للسلم وللتقدم المشترك… وتلك واحدة من طموحات المشروع الإصلاحي والتحديثي للملك محمد السادس.