يقال إن أقدم مهنة مارستها المرأة هي بيع جسدها أي البغاء أو الدعارة، وكلمة: مارست تومئ إلى رغبتها في ذلك، في حين أن الأمر قد لا يكون برغبتها الخاصة بل نتيجة ظروف اقتصادية أو اجتماعية أو بضغط من جهة ما. فالرغبة الشخصية الصرفة نادرٌ حدوثها بالنسبة للمرأة، إذ تكون محدودة سواء في العلاقة أو في تعددها، في حين أن الدعارة هي الممارسة الجماعية في إطار خاص ومقابل مبلغ معين.
وقد جاء في المعجم: البَغْي يعني الظلم و أكثر من البغي: أكثر من الفساد، ويقال امرأة بغِيٌّ أي زانية و قد جاء في القرآن الكريم: «قالت أنى يكون لي غلام و لم يمسسني بشر و لم أك بغِيّا» ، و «يا أخت هارون ما كان أبوك إمرأ سوء وما كانت أمك بغِيّا» الآيتان 18 و26 من سورة مريم، وجاء في قصيدة للشاعر الصوفي أبي العتاهية:
اشتد بَغْيُ الناس في الأرضِ وعَلَوْا بعضهم على بعضِ.
لقد أشار الفقيه الجليل محمد المختار السوسي في كتابه المعسول للدعارة بالقول: «لم تشع الأخلاق الفاسدة إلا بعد الاحتلال الذي جر كل وبال على المغرب» وانتقد بعنف أعوان الاستعمار من المغاربة « الذين …يستكثرون من تنظيم الرقص و يأتون بالنساء تقربا للمستعمرين».
أنشأ الاستعمار الفرنسي أول مبغى خاص بالفرنسيات أواخر القرن 19 وتحديدا في 1894، و في 1906 تم تأسيس أول مبغى في طنجة التي كانت تحت وطأة استعمار دولي. وبعد الهجوم على الدار البيضاء / أنفا في 1907 بدأ تأسيس أحياء الدعارة الثابتة و المتنقلة. ثم بعد 1912 تم نشر هذه الأحياء في كل المدن المغربية وبدأ جلْبُ المغربيات وحدهن تقريبا لهذه الأحياء. وقد لعب المارشال ليوطي دورا كبيرا في هذا الأمر، أما الأجنبيات فقد خصصت لهن محلات أكثر أناقة و فخامة يرتادها زبناء خصوصيون، ومع عقدة – الأجنبي- وتقليد المنهزم المنتصر دائما فإن أثرياء المغرب من أعوان السلطات الاستعمارية كانوا من زبناء هذه المحلات الفخمة الكبار، بل إن بعضهم كانوا مساهمين في هذه المحلات ، فضلا عن استفادتهم المالية من الأحياء العادية حسب نفوذهم في كل منطقة .
إن البغاء هنا هو نتيجة ظروف شخصية أو فردية و مادية صرف، أما البغاء الذي يهمنا فهو الجماعي الذي تهيأ السبل القانونية والإدارية لممارسته بشكل عادي وذلك إما عبر منازل مخصصة لذلك أو أحياء بكاملها وهو ما عرفه المغرب خلال 1914-1956 بعدها تم إغلاق هذه الأحياء ومنع الدعارة و إصدار عقوبات جنائية على ممارسيها.
لقد أشارت بعض المصادر التاريخية إلى أن البغاء كان ممارسا حتى قبل احتلال المغرب أي منذ 1907، لكنه كان مشروعا فرديا، إذ أن مأسسة الدعارة في المغرب لم تطبق إلا بعد 1912 حين قنّنَ الاستعمار الفرنسي و الإسباني و الدولي الدعارة ومنحها مجالات خاصة تمارس فيها. و لم يكتف الاستعمار بالدعارة الثابتة المرتبطة بالأحياء و المنازل والقرى المخصصة لذلك، بل أسس الدعارة المتنقلة التي تتبع الجيوش في عربات وخيام مفروشة تجرها الخيول أو البغال. فالدعارة قبل المرحلة الاستعمارية كانت مشروعا شخصيا يمارس رغم التحريم الديني و المنع الأخلاقي، وظل مرفوضا بشكل عام ومحدوداً. أما بعد المرحلة الاستعمارية و أثناءها فقد أصبح قانونيا و محميا من طرف السلطات، بل أصبح مرتبطا بعدد من رجال السلطة من الباشوات و القواد و الحكام الذين كانوا يأخذون نصيبًا من مداخيل هذه الأحياء والدور، وأصبحت مصلحة هؤلاء في ديمومتها. وعندما تقل نسبة النساء في هذه الأحياء أو يزداد الإقبال عليها يزودونها بنساء جديدات. وكان من الطرق غير العادية لتنشيط هذه الأحياء جلب الأرامل و المطلقات و اللواتي لا معيل لهن، حيث يعمد عون السلطة إلى نشر دعاية أن المرأة الفلانية تمارس الفاحشة في حي أو درب معين، فتأمر السلطات بالقبض عليها و إحالتها إلى دور الدعارة و أحيائها. فضلا عن طرق أخرى سواء بالاختيار أو بالإرغام أو بالشراء أو الإغراء أو سرقة و تربية البنات الصغيرات لدى المكلفات بهذه الدور إلى بلوغهن حيث يدخلن الميدان.
لقد ربط الاستعمار بين البغاء وقانونيته أو مأسسته و بين أعوانه من المغاربة الذين ارتبطت مصلحتهم المالية بهذه الأحياء، بل إن بعض الذين ارتبطوا بالحماية القضائية الأجنبية مارسوا هذا النشاط و أسسوا “فنادق” لحسابهم الخاص تمارس فيها الدعارة. و الحماية القضائية كما هو معروف قيام بعض الأشخاص باتخاذ أعلام أجنبية و تعليقها على منازلهم – بعد موافقة تلك الدول- فلا يطال هذا الشخصَ القانون المغربي، وقد انتشرت هذه الظاهرة في القرن 19 وبداية القرن العشرين.
من أهم المشاكل و التحديات التي واجهت هذه الأحياء – ليس فقط في المغرب بل في العالم كله- مشكلة الحمل و الإنجاب، فقد انعدمت وسائل منع الحمل التي لم تك متطورة كما هو الحال الآن. والمرأة التي تمارس هذا « العمل » تبدأ في سن مبكرة (14 إلى غاية 45 سنة). و بالتالي كان عدد الأطفال بالنسبة لكل امرأة يزيد عن 15 طفلا خلال فترة الخصوبة، يضاف إليهن نساء البغاء المتنقل خلف الجيوش سواء في الداخل أو في الخارج خصوصا أثناء الحرب العالمية الأولى 1914-1918، إلا أن الأمر عرف تضخما هائلا في المغرب بعد الحرب العالمية الثانية 1939-1944 حيث انتشرت دور الدعارة ما بين 1914 و 1939 بشكل أصبحت معه القرى فضلا عن المدن تتوفر على حي خاص بها للبغاء المقنن بالإضافة إلى البغاء المتنقل، فعرف المجتمع ظاهرة الأطفال بدون أب قبل مصطلح الأم العازبة، وتداول المغاربة نعت “ابن الحرام” وتم تأسيس الخيريات لحضانة هؤلاء الأطفال. ثم كان لا بد من تأسيس نظام إداري ذي طابع شرعي يمنح البغاء و نتائجه شرعية لذلك جاء نظام الحالة المدنية بقانون فاتح أكتوبر 1949 لتسجيل الأبناء ككل، و تم فتح دفاتر خاصة أو كنانيش الحالة المدنية في مختلف المدن، والاتفاق على أن التسجيل في كنانيش أو دفاتر الحالة المدنية لا يعني أن كل من سجل هو ابن لصاحب الكناش، بل يلجأ إلى اللفيف الشرعي أو ما يعرف بالإراثة لإثبات بنوة هؤلاء الأبناء و ليس لدفتر الحالة المدنية…وعندما تأسست بطاقة التعريف الرمادية كانت من وجهين: الوجه الأول عليه الصورة و الاسم و السكنى، و الوجه الخلفي عليه اسم الأم و الأب. وعندما لا يعرف الأب لا يشار له أو يشار له بعلامة x، لكن مع صدور قانون البطاقة الوطنية في 1976 تم التخلي عن اسم الأب و الأم، فقد كانت البطاقة الوطنية حتى 2013 – قبل البطاقة البيومترية- تتوفر فقط على الإسم الشخصي و العائلي و المهنة و العنوان دون اسم الأبوين تحاشيا لذكر الأم دون الأب أو عدم وجودهما معا. لكن بصدور قانون الحالة المدنية في 2004 تم بمقتضى المادة 16 السماح للذي لا يتوفر على اسم عائلي أو أب أو لا يتوفر على والدين معروفين بإنشاء عقد ازدياد، و يختار له اسم أب و اسم عائلي سواء كان راشدا أو قاصرا، فإذا كان راشدا فهو يختار الأسماء المرغوبة، و إذا كان قاصرا فلكل من الأشخاص أو السلطات أو المؤسسات القيام بذلك. وبهذا انتهت في القانون المغربي مشكلة الهوية أو الهوية الكاملة ، فأصبحت البطاقة الوطنية الحالية و قبلها عقد الازدياد يحتوي على أسماء شخصية و عائلية و اسمي الأم و الأب أو المفترضات بالنسبة للوليد الذي عثر عليه أو غير المعروف الوالدين.
ليست تطورات الحالة المدنية أو كناشها و ما يترتب عنها من عقد ازدياد و بطاقة وطنية للتعريف هي النتائج الوحيدة أو إحدى نتائج ظاهرة البغاء في المغرب بل قوانين التقاعد أيضا، ذلك أن الأرملة في قوانين التقاعد سواء المدني أو العسكري أو الخاص تأخذ نصف مبلغ تقاعد زوجها بشرط أن لا تتزوج، فإذا تزوجت من جديد تحرم من هذا المعاش، بل إن بعض الأرامل يحرمن من امتيازات أخرى كالسكن إذا خلف الزوج سكنا إداريا ما. قد يقول قائل إن انتقال نفقتها إلى زوج جديد يُسقط تقاعد الزوج الراحل، فما قولنا لو أن الأرملة طلقت من الزوج الثاني هل يمكن أن يعاد إليها تقاعد زوجها الراحل؟ – لا- لقد كان هذا القانون أيضا من نتائج الاستعمار كان من أهدافه الأساسية نشر الدعارة في المغرب سواء كانت جماعية أو فردية، فهو يشجع النساء الأرامل المستفيدات من التقاعد على البقاء بدون زواج و يعاقبن إذا تزوجن بمنع الراتب التقاعدي مع العلم أن هذا الراتب أو المعاش هو في العمق مدخرات الزوج لزوجته. وقد بقى هذا القانون الذي نسخ من القوانين الاستعمارية معمولا به حاليا و لم ينتبه المشرع المغربي إلى خطورته و ظلمه و خلفيته المرحلية / الاجتماعية و أهدافه و أسبابه إذ أن المرأة / الأرملة عليها الإدلاء بشهادة عدم الزواج عند كل تجديد و أحيانا تكون الشهادة نكتة مُبكية مُضحكة فهي مطلوبة حتى من الطاعنات في السن!.
لقد حاولت القوانين التي صدرت مؤخرا خاصة قانون التطليق للشقاق – رغم انعدام خلفيته الإسلامية – منح المرأة حقوقا مماثلة للرجل بعد أن ظل يمارس بشكل فظ أحيانا حقوقه في الطلاق و يمنع المرأة من ممارسة حياتها بشكل طبيعي. وبوضع المشرع المغربي مقتضيات المادة 84 ومنح المرأة المطلقة المتعة سواء طلبت التطليق أو طلبه الزوج فإن ظاهرة طلبات التطليق تجاوزت الحدود و ملأت الشوارع بالنساء ، ورغم تدخل القضاء المغربي ممثلا في قضاء محكمة النقض بقراره الذي أصبح قانونا ساريا و يقضي بحرمان المرأة من مبلغ المتعة إذا كانت هي طالبة التطليق- هذا الاجتهاد تأثر أو صادف ما ينص عليه القانون المصري أو قانون الأسرة المصري – رغم أن لهذا الاجتهاد تأثيراً نسبيًا في عدد الطلبات التي تقدم من طرف النساء للتطليق المعتاد، إلا أن جلسات المحاكم في المغرب التي تبث يوميا في طلبات التطليق فاقت المُعتاد، بل إن الأمر يتعلق بنشوء “طبقة” أو فئات مهنية تستفيد من هذه المسطرة من مهنيين وصناديق، فقد ارتبط هؤلاء المهنيون بهذه المسطرة التي أصبحت تدر المال على ممارسيها بمختلف الطرق كتزويج القاصرات والتطليق للشقاق و النفقة وصندوق النفقة و الحسابات البنكية، مما أدى إلى خروج مئات الآلاف من بيوتهن – وبيوتهم – الزوجية إلى الشارع؛
إن سلطة النصوص والتعديلات المُرْعِبة التي تعرفها وستعرفها الترسانة القانونية و التي تصدر بدعم من ديكتاتورية الأقلية في مجتمع منسجم مع تاريخه الديني والأخلاقي و الاجتماعي، يضاف إليها عمليات الابتزاز التي تمارسها الدول الغربية عبر منظماتها و حكوماتها وسفاراتها مستغلة الظرفية الوطنية لقضايا الحدود التي خلقها وخلفها الاستعمار كقنابل موقوتة / تلد قنابل آنية هدفها تمزيق النسيج الاجتماعي و الأسري و بلقنة هذا المجتمع و إنشاء مناطق / مجتمعات متناقضة تعليميا و تربويا و أسريا، وهو ما يظهر في إبداع الناس للأعراف مثل “الرهن” للهروب من الكراء و “دارت” للفرار من ديون الأبناك بفوائدها الفاحشة و الزواج بالفاتحة أمام ضغط الزواج الكتابي المكلف أمام المحاكم و “ زوجتك نفسي” بين الشباب في الجامعات أمام صعوبة الارتباط الشرعي… في مجتمع مفتوح.
* باحث و خبير في الثقافة الهندية و الآسيوية
ـ (الصور من الأرشيف)