اختُتم في باكو، عاصمة أذربيجان، مؤتمر قمّة المناخ العالمي (11 – 22) تشرين الثاني / نوفمبر 2024، وحضر المؤتمر ما يزيد عن 40 ألف مندوب يمثلون حكومات الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، بالإضافة إلى دولة فلسطين والفاتيكان والاتحاد الأوروبي.
وهذه الدول تمثّل أطرافًا في اتفاقية المناخ الدولية لعام 1992، وانضم غالبيتها الساحقة إلى اتفاقية باريس للمناخ العام 2015. وحضر المؤتمر أيضًا دبلوماسيون ومسؤولون في الأمم المتحدة وعلماء مناخ وصحفيون وقادة نقابيون عماليون وخبراء سياسيون، وشارك في المؤتمر منظمات غير حكومية ونشطاء وقادة للسكان الأصليين ومدافعين عن حقوق الإنسان.
وأعلن أن الهدف من انعقاد مؤتمر كوب 29 هو الاتفاق على خطط مستقبلية للتصدّي لتغييرات المناخ، والعمل على تطوير ما تم الاتفاق عليه وتبادل الخبرة في هذا الميدان، لاسيّما الحدّ من ظاهرة الاحتباس الحراري الكوني، وتقديم المساعدة الضرورية لأولئك الأشد تضررًا، لكي يتمكنوا من استعادة حياتهم الطبيعية وبناء مستقبلهم.
صعوبات وتحديات
وينعقد هذا المؤتمر في ظروف بالغة الصعوبة والتعقيد على المستوى الدولي بسبب استمرار الحرب في أوكرانيا منذ 24 شباط / فبراير 2022 وحرب الإبادة على غزّة منذ 7 تشرين الأول / أوكتوبر 2023 وامتدادها إلى لبنان، حيث تمارس “إسرائيل” تغوّلًا ووحشية لم يحدث لهما مثيلًا على المستوى العالمي.
وثمة تحديات مهمة تواجه المؤتمر بعضها ظرفي ومؤقت وبعضها الآخر مزمن ومعتّق ومنها انتخاب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة ومعروف مواقفه السلبية من كوب 29 وسبق له خلال ولايته الأولى أن أعلن انسحابه من اتفاقية باريس في العام 2017، أما التحديات القديمة فتتعلّق بمحاولة الدول الصناعية التملّص من إلتزاماتها إزاء الدول النامية والفقيرة، خصوصًا بالعمل على مساعدتها للتخلّص من تأثيرات تغييرات المناخ.
اتفاقية باريس
في العام 2015، تم الاتفاق على الأسس القانونية لتحديد الأهداف الضرورية للحدّ من انبعاثات الغازات الدفينة من أجل الحد من درجة الحرارة على المستوى العالمي، والسعي لتقليلها إلى درجتين مئويتين على الأقل، أي العودة بها إلى مستويات ما قبل الثورة الصناعية في أطوارها المتأخرة، الأمر الذي يستوجب اتخاذ الإجراءات الكفيلة دوليًا للحد من ظاهرة الاحتباس الحراري، وتخفيضها بنسبة 1.5 درجة مئوية بحلول نهاية القرن الجاري، علمًا بأن البلدان المنخفضة الدخل ستكون هي الأشد تضرّرًا.
ودرس مؤتمر كوب 29 رفع القدرة المالية لمساعدة الدول المتضررة والفقيرة لتحويل اقتصادياتها إلى اقتصاديات خالية من الكربون. وبالطبع التمويل يأتي من الدول الغنية والأكثر مداخيلًا، وهي التي تتحمّل المسؤولية الأكبر في تغيّرات المناخ، ويتطلّب الأمر أُطرًا زمنية، وسيتم تقديم الأموال على شكل منح وليس قروضًا، فقد أثبتت التجربة أن القروض ستزيد في إثقال الدول الفقيرة المنخفضة المداخيل.
ويفترض بالمنح أن تذهب إلى تعويض الخسائر والأضرار، للمساعدة على التعافي من التأثيرات الحالية لتغيّرات المناخ ومن التأثيرات المستقبلية، والأمر يحتاج إلى عدّة تريليونات، وذلك على طريق تحقيق العدالة المناخية، التي تتطلّب الإدامة والتواصل بحيث لا تقل الحاجة عن ترليون دولار سنويًا.
العام 2024 العام الأكثر حرارة
تتسبب تغيّرات المناخ في ارتفاع هائل لوتيرة درجات الحرارة، وحسب الخبراء فإن العام الجاري 2024، هو العام الأشد حرارة على الإطلاق الذي يشهده العالم، وقد نزح مئات الآلاف من الناس بسبب الفياضانات والأعاصير والجفاف وغيرها من الكوارث الطبيعية، تلك التي تفاقمت بسبب ظاهرة الاحتباس الحراري، كما أُزهقت أرواح الآلاف بسبب النزوح والجوع والمرض.
وتطالب العديد من المنظمات غير الحكومية، بما فيها منظمات حقوق الإنسان بوضع مسألة احترام حقوق الإنسان في صميم صنع القرار بما له علاقة بالعدالة المناخية، حيث يتعيّن على الدول الغنية والقادرة على زيادة تمويلات المناخ، تعويض الدول الضعيفة لكي تتخلّص بصورة سريعة وعلى نحو عاجل من التأثيرات الضارة للتغيرات المناخية، لاسيّما باستخدام تقنيات حديثة لاحتجاز الكربون وتخزينه وإزالته والتشجيع على استخدام الغاز باعتباره “وقودًا انتقاليًا”.
مستقبل البشرية على المحك
وكان الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريتش قد سلّط الضوء على الدور الحاسم الذي يجب أن تلعبه المدن والمناطق والشركات والمؤسسات المالية في دفع الجهود العالمية نحو الوصول إلى صافي انبعاثات صفرية، والمقصود فنيًا بمصطلح “الصفر” هو تحقيق التوازن بين الكربون المنبعث من الغلاف الجوي والكربون المزال منه.
وبالطبع فإن مستقبل البشرية سيكون على المحك، الأمر الذي يستوجب التعاون عبر خطط فعالة ومتدرجة، وعلى الجميع الالتزام بها، إذْ لا أحد يستطيع أن يُعفي نفسه منها، سواء الدول المتقدمة والصناعية والغنية أم الدول النامية والفقيرة والمتضررة، وربما ستكون أزمة المناخ وموضوع العدالة المناخية هي أحد أهم المعارك الكبرى التي تخوضها البشرية.
وتأتي هذه التحذيرات التي صدرت عن خبراء معتمدين بعد تقارير قالت أن ثمة تسريبات من غاز الميثان أرسلت على مدار العامين المنصرمين إخطارًا إلى الحكومات والشركات، لكنه لم تتم الاستجابة إليها باستثناءات محدودة جدًا.
وغاز الميثان، حسب برنامج الأمم المتحدة للبيئة، يسبب نحو ثلث الاحترار الحالي لكوكبنا، ولهذا فإن الطريق الأسرع هو الحدّ من هذه الانبعاثات التي يسببها غاز الميثان لإبطاء ظاهرة الاحتباس الحراري على المدى القريب، كما أنه الأقل تكلفة لتجنّب الأضرار المناخية الخطيرة.
العدالة المناخية
وتُعرّف منظمة Cool The Planet العدالة المناخية بأنها “رؤية لإزالة وتخفيف الأعباء غير المتكافئة التي أنجزها المناخ”. وكان التدهور المستمر في البيئة الطبيعية قد عاظم من مسؤولية الدول لإدراك المخاطر الناجمة عن ذلك، لذلك تداعت ومعها العديد من المنظمات الدولية والإقليمية والمحليّة إلى تأكيد أهمية التعاون ورفع الوعي بذلك، والعمل على وقف الاعتداء العشوائي والمنظم، الذي يقترفه الإنسان بحق البيئة والطبيعة وما ينتج عن ذلك من تلوث شامل على نحو يهدّد الوجود الإنساني والنوع البشري، مما أدّى إلى إلتفات المجتمع الدولي، ولاسيّما في عقود السبعينيات إلى ذلك، والتنبّه إلى مخاطره المستقبلية على جميع الكائنات الحية على سطح المعمورة.
الاقتصاد الأخضر
وفي العام 1988 تأسس المجلس الحكومي الدولي الخاص بالتغيّر المناخي، وقد ارتفعت الدعوة إلى ما سمّي بالاقتصاد الأخضر الذي يقوم على ركنين أساسيين هما: الغاية من النشاط الاقتصادي الذي هدفه الحفاظ على البيئة وضمان استدامتها للأجيال المقبلة، ويكون الاقتصاد أخضرًا بمعنى أقل تلويثًا واستهلاكًا للمواد الطبيعية عمومًا وغير المتجددة منها بصفة خاصة. والهدف هو حماية الإنسان أفرادًا أم جماعات بما يتطلّب وجود حماية البيئة وصيانة مواردها.
وقد جاء في إعلان استوكهولم حول البيئة الإنسانية في العام 1972 “أن على الإنسان واجب مقدّس في حماية وتحسين البيئة للأجيال الحاضرة والمقبلة، وأنه يتحمّل كامل المسؤولية في سبيل تحقيق هذا الواجب”.
وحسب التقديرات التي يقول بها الخبراء فإن 10% فقط من البلدان الفقيرة هي التي تتحمّل أسباب انبعاث الغازات الدفينة المتسببة في ظاهرة الاحتباس الحراري وتغيرات المناخ، في حين أن البلدان الغنية والتي يقدّر عددها ﺑ 10% من إجمالي سكان العالم هي المسؤولة عن 90% من هذه الانبعاثات.
الطابع الحقوقي والأخلاقي
ولعلّ مسألة العدالة المناخية لها طابع حقوقي وقانوني واقتصادي واجتماعي وعلمي وتكنولوجي، مثلما لها طابع أخلاقي وقيمي يتعلّق بمنظومة العدالة الدولية، وهي جزء لا يتجزأ من الجيل الثالث لحقوق الإنسان الذي يتعلّق بالتنمية والبيئة والسلام والاستفادة من منجزات الثورة العلمية – التقنية، ولعلّ ذلك ما ورد في الاتفاقية الدولية الإطارية للأمم المتحدة الموقعة العام 1992.
وقد صُك مفهوم العدالة المناخية لأول مرة العام 1999، وذلك بتقرير صدر عن مؤسسة سان فرانسيسكو، حيث جرى تبنيه في مؤتمر في هولندا العام 2000، ولاحقًا في مؤتمر بالي (أندونيسيا) في العام 2002، الذي تم فيه اعتماد مبادئ بالي للعدالة المناخية، والمقصود عدالة التوزيع والتخلّص من التمييز وعدم المساواة والإجحاف بين الأفراد والدول، حتى أصبح اليوم ضرورة قانونية دولية وأخلاقية إنسانية في الآن لمعالجة الأعباء الناجمة وغير المتناسبة لتأثيرات المناخ على المجتمعات المختلفة، وخصوصًا الفقيرة.
ومن هنا جاءت انتقادات العديد من المنظمات الدولية، بما فيها منظمة العفو الدولية إزاء حكومات أذربيجان التي ينعقد فيها المؤتمر لانتهاكاتها لحقوق الإنسان فيما يتعلّق بحريّة التعبير وحق تأسيس الجمعيات، ومن ضمنها منظمات خاصة بالبيئة، التي قدّمت مطالعات للارتقاء بالمطالب إلى صيغة أعلى، كما ارتفعت بعض الأصوات مناديةً بذلك.
وحيث يجري النقاش منذ عقود من الزمن بشأن العدالة المناخية، فإن من الواضح أنه ثمة عقبات جدية أمام تحقيقها، لاسيّما بالإمكانات المتوفرة لحد الآن، فضلًا عن تعارض مصالح الدول الغنية مع البلدان الفقيرة، وهو ما دعا البعض إلى اقتراح صيغ وسطية توفيقية، واعتماد تهجين طاقة المستقبل بهدف تأمين بعض المطالب والأهداف الممكنة بدلًا من تبديد الوقت والجهد في نقاشات لا طائل منها وحلول غير ممكنة التحقيق، لاسيّما بفعل ما تمارسه القوى المتنفذة من كسب للوقت وإطالة أمد المماطلة.
***
*عبد الحسين شعبان – أكاديمي ومفكّر