في سنة 1997 صدر لي كتاب بعنوان (هاجس التغيير الديمقراطي) حيث كان أبناء جيلي يحلمون ببناء مغرب جديد على أساس شرعية الإرادة الشعبية والمصالح الحيوية للبلاد بعد الفشل الذريع لكل التجارب التحكمية التي سادت عقودا من الزمن اعتمادا على مؤسسات ليس لها من الديمقراطية سوى الشكل وتتيح في جوهرها لأقلية قليلة التحكم في مسار البلاد ومستقبل الأجيال إلى أن دق الملك الراحل الحسن الثاني ناقوس الخطر بقوله أن البلاد على وشك السكتة القلبية.
وتعديل الدستور سنة 1996 وإدماج أحزاب الحركة الوطنية في التدبير الحكومي سنة 1998 تحت شعار ما سُمي بالتناوب التوافقي وتحمٌّس الكثيرين لهذه التطورات لم يُفْضِ إلي أي تغيير ملموس في طبيعة البنيات السياسية وفي التوجهات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية السائدة منذ عقود من الزمن مما آل إلى استمرار نفس الطريق المؤدي إلى الباب المسدود.
وفي سنة 2009 صدر لي كتاب بعنوان (أولوية الإصلاح الدستوري) باعتبار أن التغيير الديمقراطي وبناء مؤسسات ذات مصداقية في تمثيليتها وصلاحياتها ودورها، ظل حلما لا يمكن بدونه قيام دولة حديثة تستند للإرادة الشعبية في توجهاتها واختياراتها وتروم التحرر من كل أشكال التبعية والخروج من دهاليز التخلف وتحقيق التنمية الشاملة والمتوازنة التي يتقاسم ثمارها الجميع وليس أقلية محدودة.
وحينما اندلع ما سُمي بالربيع العربي وخروج تظاهرات حركة 20 فبراير في العديد من المدن المغربية جاء الإعلان عن دستور جديد يشمل الكثير من التغييرات فيما يخص إدراج النص على بعض الحقوق والحريات وتغيير تسميات بعض المؤسسات ودسترة “مؤسسات الحكامة” ومنح بعض الصلاحيات الجديدة للحكومة، غير أن هذه الأخيرة تظل وفق المقتضيات الدستورية الجديدة القديمة كآلية للتدبير والتسيير وليس للقرار والتغيير؛ مما يفسر أن التناوب على كراسي الحكومة من طرف التيارات السياسية المختلفة التوجهات لا يؤدي إلى أي تغيير في جوهر السياسات العمومية المتبعة واستمرار نفس الاختيارات والتوجهات يعطي نفس النتائج المتمثلة في تكريس وتوسيع الفوارق الاجتماعية والمجالية وغياب شروط تنمية متوازنة ومجتمع متراص ومتضامن وانسداد الآفاق أمام الفئات العريضة من الأجيال الصاعدة واستمرار السير نحو المجهول.
وإذا كانت القوى الوطنية قد تكتلت في الماضي من أجل التغيير الديمقراطي فإن صوت هذه القوى مال في العقدين الأخيرين إلى الخفوت والاندثار وآل صفها إلى التشتت والضعف والاندماج فيما هو سائد مما يكرس وضعا يأبى أي تغيير إيجابي ينقل البلاد من ديمقراطية الشكل إلى ديمقراطية حقيقية تضمن حريات الرأي والتعبير والانتماء والحق في الاختلاف وفي انتقاد السياسات العمومية المتبعة ومساواة الجميع في دولة الحق والقانون والتنافس الشريف بين القوى السياسية في برامجها وفي ابتكار الحلول وتداول سلطة الحكم مما يضفي دينامية التغيير والتطور على الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ويفتح آفاقا جديدة لتنمية ترتبط في آلياتها وأهدافها بالعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية والتضامن الوطني.
إن جل بلدان العالم تتطور وتبحث لنفسها عن موقع في خريطة المستقبل التي تنسج خيوطها قوى تقليدية وقوى صاعدة تنافسها ولا مكان فيها للدول الضعيفة سياسيا واقتصادية وحضاريا وثقافيا والتي ستبقى رهينة التبعية والاستسلام لما يقرره لها الآخرون الذين لا يأخذون بعين الاعتبار سوى مصالحهم الخاصة.
ونؤكد لمن يحتاج إلى تأكيد أن فرض توجه أحادي شمولي ومحاولة إقحام الجميع في بوتقته وإقصاء من يأبى ذلك ليس منهجا صحيحا في خدمة البلاد ولا يستجيب لتطلعات وطموحات الأجيال الصاعدة والفئات العريضة من الشعب، ويقحم الدولة في مسار معاكس للدمقرطة والتحديث والتقدم.
ونؤكد أيضا أنه لا يمكن بناء دولة قوية ومستقلة في قراراتها ومتطورة في اقتصادها ومتماسكة في نسيجها الاجتماعي إلا بفتح المجال لتنوع الاجتهادات السياسية وتعبئة كل الطاقات المتوفرة دون أي إقصاء في إطار ديمقراطية حقيقية تنبني على الإرادة الشعبية والمؤسسات الفاعلة التي تحظى بالثقة والمصداقية وسيادة القانون.
إنه لا يوجد منهج واحد وفكر واحد صالح لمعالجة كل القضايا وفي كل الأوقات، والدول التي تتطور وتتقدم هي التي تستفيد من تجاربها ولا تكرر أخطاءها وتفتح المجال للتغيير والتطور المستمرين وتضع الآليات الضرورية لتقويم وتصحيح مساراتها وتجنب منزلقات الفساد وعوامل الجمود والتكلس، وتعتمد في ذلك على مقوماتها الذاتية وتجند كل طاقاتها ومواردها الطبيعية والبشرية والثقافية مما يتيح لها المواكبة والتفاعل الإيجابي مع التطورات والتحولات السريعة التي يعرفها العالم ليس في بعض شكلياتها ومظاهرها وإنما في أسسها وجوهرها مع المحافظة على استقلالها وسيادتها في عالم زاخر بالصراعات ولا مكانة فيه للضعفاء.