عندما أقيلت الحكومة الوطنية برئاسة الراحل عبد الله ابراهيم 1958-1960، كانت قد وضعت برنامجها الاقتصادي والاجتماعي المتمثل في تأسيس بنك للتجارة الخارجية ووضع قانون الضمان الاجتماعي، وفصل الفرنك عن الدرهم وقانون الحريات العامة والمسطرة الجنائية، والإصلاح الزراعي وتوزيع الأراضي على الفلاحين وإزالة القواعد الأجنبية وغيرها من الإجراءات والأعمال، ثم تهيئ مشروع المخطط الخماسي (و مدته 5 سنوات) لتنمية البلاد بشكل شامل اقتصاديا وتعليميا وفلاحيا واجتماعيا.
وخلال المدة القصيرة التي تولت فيها هذه الحكومة السلطة المدنية / الاجتماعية، والتي لا تتجاوز 18 شهرا تمت برمجة المخطط الخماسي، الذي كان من شأنه وضع المغرب على سكة التقدم الصناعي والتعليمي والاجتماعي بالضرورة. وكان جلالة الملك الراحل محمد الخامس 1927-1961 في خطاب العرش في 18 نونبر 1959 قد أعلن تبنيه هذا البرنامج وذلك بحد القول:
«وسنواصل العمل الذي بدأناه هذه السنة لتحرير اقتصادنا، كما سنشرع في تطبيق التصميم الخماسي الذي تنكب الآن على وضعه لجان متخصصة ينتمي بعض أعضائها إلى المصالح العمومية، و بعضهم الآخر إلى المنظمات الوطنية ولا مراء في أن إنجاز التصميم هو السبيل الوحيد المفضي إلى الازدهار الاقتصادي والرقي الاجتماعي بالنسبة لبلد كبلدنا كثرت متطلباته وعظمت احتياجاته».
الجريدة الرسمية – العدد 3367- بتاريخ 27 نونبر 1959
كان هذا البرنامج يشمل الإصلاح الزراعي على المستوى الوطني، ووضع برنامج خاص لمنطقة الريف، يتمثل في المركب الحديدي بالناظور، وتحويل الزراعة في منطقة الشمال إلى زراعة عادية ذات مردودية عالية خاصة زراعة الشاي، بل تم إنجاز دراسة لبداية هذا البرنامج والمؤسس على الاكتفاء الذاتي الغذائي، وذلك عبر تحويل البادية المغربية إلى منطقة زراعية صناعية مع التركيز على ما يحتاجه المغرب فعلا.
كان الحوار مع اسبانيا قد بدأ لتحرير الصحراء والثغور البحرية ومدينتي سبتة ومليلية، على إثر زيارة رئيس الحكومة في 1960 لمدريد بصفته وزيرا للخارجية أيضا وتسليمه بعض الأسرى الإسبان. إلا أن الخلاف كان قد تصاعد بين مكونات الأحزاب المغربية، فأعلن بعضها في بعض الجرائد عن مناهضة هذا البرنامج حتى في بعده الوطني التحريري.
بعد إقالة الحكومة بدأ الصراع السياسي وإنشاء الأحزاب الإدارية وتنامي السلطة البوليسية، وإنشاء مراكز الاعتقال السرية، ونشب الخلاف داخل مكونات الحركة الوطنية عندما طرح البرنامج الجديد للتنمية الاقتصادية، الذي وضع من طرف السفارة الأمريكية، وقام السفير آنئذ بزيارات متعددة لكل الأطياف السياسية لإقناعهم بهذا البرنامج الذي يتمثل في:
- كون المغرب قريبا جدا من أوروبا ويجب أن يستغل هذا الجوار الجغرافي.
- كون أوروبا خرجت من الحرب العالمية الثانية وتحتاج إلى يد عاملة.
- نشوء طبقة غنية ومتوسطة في أوروبا تحتاج إلى السياحة في بلاد الشمس القريبة المجهزة بالفنادق.
- وجوب تحول الأراضي الفلاحية المغربية التي تنتج الحبوب إلى إنتاج البواكير- التي يتأخر نضجها في أوروبا لعوامل مناخية- وتصديرها إلى أوروبا.
هذا البرنامج رفض جملة وتفصيلا من الحركة الوطنية خاصة الاتحاد المغربي للشغل بزعامة الراحل المحجوب بن الصديق -1916-2010- الذي رفع شعار “لا لتصدير اللحوم البشرية”. لكنه نجح على المستوى الرسمي و فرض على المستوى الشعبي، فتحول الاقتصاد وبالتالي المجتمع إلى قطاعات خدماتية، وعندما أعلنت المغربة في 1973 تم إنشاء طبقة جديدة أو فئة اجتماعية تحولت بسرعة إلى الثراء الفاحش، عبر مشاركة الأجانب في هذه الخدمات. ورغم المواجهة التي خاضتها فكريا وثقافيا وسياسيا الأحزاب الوطنية لمواجهة هذا المد، إلا أن انتشاره أدى إلى تحولات عميقة في المجتمع المغربي. أفضت إلى تأثيرات على مستوى التعليم والهجرة الذكورية التي تحولت نسائية أيضا، وإلى نشر الطبقية في التعليم وإلى إنشاء مجتمعات متباينة. ولم يتم القضاء على الأمية التي وصلت أرقاما فلكية بل سقطت البلاد في أزمات لغوية الهدف منها إعلان الوسيط الفرنسي كحل لها.
كان منتصف السبعينات 1975-1977 بداية إعلان المسلسل الديمقراطي الجديد، وقد ارتكز هذا الإعلان على:
- دسـتــور جـديـد يمـنح السلطة للبرلمان في مجالات مختلفة.
- ارتباط هذه المرحلة بتحرير الصحراء و عودتها للوطن الأم.
إذ وضع قانون جديد للبلديات والجماعات قانون 1976.9.30، تم بموجبه منح سلطات واسعة لرئيس البلدية أو الجماعة في نطاق اقتصادي وإداري وأحيانا اجتماعي، ووضع دستور جديد يمنح بعض السلطات للبرلمان الذي سينتخب، إلا أن المرحلة تميزت بإنشاء الأحزاب الإدارية، وتدمير البنية الحزبية و التنظيمية للقوى الوطنية في البادية، فاقتصر أمر هذه الأحزاب و تأثيرها على بعض المدن فقط. وظهرت لوبيات ومصالح وفئات اجتماعية مرتبطة بالاستعمار الجديد وبمصالحها المالية والاقتصادية، و الأخطر من ذلك كله الأمية المنتشرة بشكل واسع بين الجماهير سواء على المستوى التعليمي و التربوي أو على المستوى السياسي، مما أدى إلى إنشاء برلمانات تثير الاستغراب، فالناس ينتخبون من هم ضدهم، بغض النظر عن عوامل التأثير السلطوي و المالي، فقد انتشر اعتقاد عام بأن الانتخابات ستفرز “ذوي النيات الطيبة” وهو أمر مخالف تماما للواقع، إذ أن الانتخابات في مثل هذا الظرف المحاط بالعوامل الاجتماعية والثقافية المذكورة لن تنتج إلا أضدادا للمجتمع لا تتمتع بجدلية الطبيعة ولا بجدلية المجتمع، وبالمقارنة -في مرحلة تاريخية- مع اليابان فقد ارتبط المغرب و اليابان في فكر الراحلين المهدي بن بركة – توفي في 1965-، وعبد الله ابراهيم – توفي في 2005- في مرحلة تاريخية لمواجهتهما نفس الخصم، وكلا الرجلين كتب عن هذه المرحلة التاريخية، وهي مرحلة السلطان مولاي الحسن الأول 1873/1894، ومرحلة الإمبراطور ميجي 1867/1912، ورغم بعد المسافات وعدم وجود علاقات بين البلدين، فإن إمبراطورية اليابان التي تقع بعيدا عن أوروبا فوجئت بقنابل السفن الأوروبية، كما فوجئ الحسن الأول بالعلوم الجديدة لأوروبا، فكان إرسال البعثتين المغربية واليابانية في أزمنة متقاربة ولنفس الأسباب تقريبا، ولذكاء كلا الإمبراطورين.
لقد هيأ المجتمع الياباني نفسه لهذه العلوم، لكن النتائج كانت مختلفة، فأعلنت اليابان إنشاء مجلس منتخب من 800 ألف مواطن فقط، بدون نساء وبدون فرد غير متعلم أو لا يؤدي الضرائب، أو بدون مهنة (نحن نتكلم عن القرنين 18 و 19). كما أعلن إصلاح زراعي تم بموجبه توزيع الأراضي على ندرتها في اليابان على الفلاحين الفقراء، وعندما عادت البعثة وجدت المجتمع مهيأ لاستقبالها، الشيء الذي لم ينجح مع بعثة المغرب عندما رجعت بأفكار جديدة لم تقبل (فالمغرب ليس في حاجة إلى وابور «= القطار» كما أكد المؤرخ الناصري)، ذلك أن البنيات لم تتغير لأسباب مختلفة منها التدخل الأجنبي، الذي كان يمنع أي تطور نظرا للجوار الأوروبي القاتل / المعشوق.
إلا أن هذا يجب ألا يكون في المرحلة الراهنة مشجبا لتعليق الفشل. فهناك أسباب أخرى ذاتية تتعلق بالتعليم وبالنخبة والفوارق الاجتماعية، وطغيان المصالح و نشوء لوبيات اقتصادية و اجتماعية وأحيانا حقوقية وثقافية هدفها منع أي تطور، بالإضافة إلى ظهور محترفي الانتخابات تنظيمات و أحيانا أفرادا، مما أدى إلى بلقنة المشهد السياسي و الحزبي (40 حزبا) و النقابي (36 نقابة)، لأن المغرب لم يتهيأ بعد للانتخابات لعوامل متعددة: الأمية، الفقر، المصالح، اللوبيات، الإدارة، التدخل الأجنبي، والنتيجة تدمير المؤسسات الوطنية، الإعلام غير المواكب والمرتبط بأجندة أخرى، وتوسيع الطبقة السياسية المستفيدة من الوضع؛
لقد تم طرح وجهتي نظر في بداية الاستقلال 1956 توضحان الاختلاف داخل الحركة الوطنية في المسألة الانتخابية، هل يجب تهيئ المجتمع تدريجيا للانتخابات؟ بعد عملية إصلاح واسعة وشاملة، وتوزيع الثروة أو جزء منها على الأوساط المعدمة من فلاحين وعمال وجماهير مدن؟ أم نبدأ بالانتخابات مهما كانت النتائج، وفي نفس الوقت نبدأ بالإصلاح وجعل «الفقراء أغنياء“؟ وقد غلب الاتجاه الثاني لأنه أكثر مصلحية، و تستفيد منه الجماعة الأغلبية -بامتلاك القوة الاقتصادية والأمنية- في المجتمع ذات النفوذ السياسي والفئوي في مواجهة غالبية الجماهير.
*باحث