في السابع من أكتوبر 2023، قامت مجموعة مسلحة من حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية “حماس” بهجوم مباغت على مشارف مستوطنة كيبوتس بالقرب من الحدود بين إسرائل وقطاع غزة. وكان الدافع حسب بيان صادر عن هذا التنظيم هو “مواجهة ما يُحاك من مخططات إسرائيلية تستهدف تصفية القضية الفلسطينية، والسيطرة على الأرض وتهويدها، وحسم السيادة على المسجد الأقصى والمقدسات، وإنهاء الحصار الجائر على قطاع غزة”. وقد نجد لهذه العملية مبررات أخرى تتمثل في طول معاناة الشعب الفلسطيني من الاحتلال الإسرائلي ومن الجرائم البشعة التي اقترفها ولازال يقترفها في حقة لأزيد من 75 سنة دون أن يظهر في الأفق حلا يحفظ للشعب الفلسطيني حقوقه الوطنية.
أما ما أسفر عنه هجوم السابع من أكتوبر حسب ما توفر من معطيات فقد بلغ عدد القتلى في صفوف الإسرائيليين حوالي 1400 وجرح منهم ما يربو عن 7500 فردا وأسر حوالي 250 شخصا. واكدت عدد من الصحف الدولية بأن معظم القتلى من المدنيين.
لا أنكر بأننا قد تلقينا الخبر بمشاعر مزدوجة ومتناقضة، فمن جهة انتشينا بالعملية بحكم اصطفافنا الدائم والمبدئي إلى جانب القضية الفلسطينية حيث اعتبرنا العملية تأديبا لغطرسة إسرائيل واختراقا غير مسبوق لحدودها المحصنة وتحطيما لصورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر. فحجم الخسائر التي تكبدتها إسرائيل في هذه العملية لم تبلغه خسائرها إبان حرب 1967 ضد الجيوش العربية مجتمعة.
أما الوجه الثاني من هذه المشاعر التي انثابتتا فهي الشعور بالحزن على سقوط أرواح بشرية جلهم مدنيين وتأسفنا كذلك على احتجاز عدد من الرهائن المدنيين وبالتالي سلبهم حريتهم والمس بأمانهم الشخصي وسلامتهم البدنية والنفسية انطلاقا من إيماننا بالمبادئ والقيم التي تتضمنها الشرعة الدولية لحقوق الإنسان. ولعل هذا الشعور هو شعور إنساني نبيل تمليه تلك القناعات التي يتشبع بها كل إنسان في كل الظروف والملابسات مهما كانت بشاعة العدو أو الخصم الذي ترتكب في حقه.
لم تتردد إسرائيل في الرد على “طوفان الأقصى” حيث شرعت على التو في حشد قواتها العسكرية على الحدود مع غزة والضفة الغربية لتبدء في اليوم الموالي، أي في 8 أكتوبر 2023 بشن هجوم عسكري شامل بري وجوي وبحري بشكل متواثر ومتصاعد بلغ درجة غير مسبوقة من العنف والوحشية أدى منذ ذلك التاريخ إلى يومنا هذا إلى سقوط أزيد من 45 ألف شهيد جلهم من المدنيين والأطفال والنساء والشيوخ وإلى جرح حوالي 100 ألف فلسطيني كما بلغ عدد النازحين أزيد من 1،5 مليون نازح، ودمرت قوات الاحتلال الإسرائيلي المساكن والطرقات والمدارس والمستشفيات وفرضت حصارا شاملا على سكان غزة لمنع أو عرقلة وصول الإسعافات والمساعدات الإنسانية الطبية والغذائية. وقد صدرت المحكمة الجنائية الدولية حكما في النازلة باتهام إسرائيل بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وبالتورط في جريمة الإبادة الجماعية مما دعى المحكمة إلى إصدار مذكرة اعتقال في حق نتنياهو ومعوانيه.
ومن تداعيات “طوفان الأقصى” والثامن من أكتوبر 2023 دخول حزب الله اللبناني في الحرب من خلال الشروع في قصف إسرائيل بالصواريخ والطائرات المسيرة مما أعطى الفرصة لإسرائيل لفتح جبهة لبنان على مصراعيها أمام ضربات جيش الاحتلال الإسرائيلي. بل إن إسرائيل قد عمدت إلى توسيع نطاق المواجهة من خلال توجيه ضربات جوية إلى سوريا تحت ذريعة ضرب مواقع إيرانية داخل التراب السوري. كما استغلت إسرائيل رد فعل إيران بإطلاق صواريخ على إسرائيل انتقاما من استهداف مواقع إيرانية بسوريا وبتصويب ضربات جوية إلى عدد من المواقع العسكرية داخل التراب الإيراني.
اعتقد أن رهان حماس وحزب الله الذي تمثل في السعى إلى قلب موازين القوة لصالحها بتحويل الهجوم والتفوق العسكري الإسرائيلي إلى خلق موقف عربي ودولي داعم لفلسطين ومناهض للولايات المتحدة الأمريكية ولإسرائيل لم يتحقق. فما تحقق هو الدعم المعنوي الذي شكلته بعض المظاهرات المناوئة للحرب والتي شهدتها بعض الجامعات الأمريكية وبعض الدول الأروبية وبعض الدول العربية مثل المغرب واليمن والأردن. إلا أن الدعم الذي حظيت به إسرائيل في المقابل إثر تعرضها ل”طوفان الأقصى” وبعد هجومها على عزة وجنوب لبنان وسوريا والذي اعتبرته دفاعا عن النفس لم تحظى به إسرائيل من قبل. هذا الدعم الذي استغلته بشكل قوي لإطلاق العنان لعملياتها العسكرية التي أدت إلى تدمير غزة وجزء من لبنان وإنهاك المقاومة الفلسطينية واللبنانية وإلحاق أضرار بليغة بالشعبين الفلسطيني واللبناني.
لم تنته مخططات الحرب الإسرائيلية التي جاءت إثر “طوفان الأقصى” عند هذه الحدود بل استمرت وبدأت تتضح معالمها الكبرى من خلال ما حدث مؤخرا بسوريا، حيث تم إسقاط نظام بشارة الأسد بشكل فاجأ الجميع وهو الحدث الذي يعد من تداعيات الحرب، حيث أدى إضعاف موقع إيران وانشغال روسيا بحربها ضد أوكرانيا إلى سحب البساط من تحت أقدام نظام بشارة الأسد الذي استوعب مضامين الصفقة بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية فتخلى عن أية مواجهة وعن حكمه الذي استند فيه على دعم روسيا وإيران وعلى قمع الشعب السوري. وقد استغلت إسرائيل الوضع الجديد في سوريا بشن حوالي 500 غارة جوية على الأراضي السورية خلال أيام معدودات لتدمير كل المعدات والتجهيزات والبنيات التحتية العسكرية السورية يستحيل على سوريا إعادة بنائها وبذلك ضمنت إسرائيل تحييد الجبهة السورية بل ضمنت لنفسها موطئ قدم لم تكن تحلم به من ذي قبل.
وفي هذا السياق أعتقد جازما أن كرة الثلج لازالت تكبر ولن تتوقف عند هذا الحد بل ستتواصل في اتجاه رسم خريطة جديدة للشرق الأوسط ولربما ستمتد لتشمل بعض الأقطار المغاربية التي كانت تدعم نظام بشارة الأسد والتي راهنت ولا تزال تراهن على قمع شعوبها عوض اعتمادها على هذه الشعوب لترسيخ أسس ومبادئ دولة الحق والقانون والمؤسسات.
فبعد أن حسمت إسرائيل الحرب لصالحها وفتحت بذلك الأبواب أمام مخططاتها القادمة وبعد أن أدى الشعب الفلسطيني فاتورة طوفان الأقصى بتقديم 45 ألف شهيد و100 ألف جريح و1،5 مليون لاجئ وبعد أن دمرت غزة ودمر جزء من لبنان وبعد أن فقدت إيران المساند الاول لحماس هبتها وقلعتيها في كل من لبنان وسوريا، من حقنا أمام هذه الفاتورة الثقيلة أن نطرح العديد من الأسئلة لفهم واستيعاب ما حصل وحتى نكون على بينة مما قد يحصل مستقبلا.
السؤال الأول: هل قامت حماس قبل الشروع في تنفيذ عملية “طوفان الأقصى” بتحليل دقيق للوضع السياسي على المستويات الدولية والإقليمية والوطنية لتحديد ميزان القوة السياسي والعسكري ومعرفة هل هو لصالحها أم ضدها حتى تدرك ما ينتظرها من خسائر وتضحيات وما يجب عمله من أجل جلب الدعم الدولي والعربي والفلسطيني اللازم، ومن أجل العمل على تعديل ميزان القوة لصالحها حتى تتمكن من تحقيق الغايات والأهداف التي رسمتها للعملية ومن أجل إعادة طرح ملف القضية الفلسطينية من جديد على طاولة اهتمامات دول العالم؟
السؤال الثاني: لماذا لم تراهن حماس على الوحدة الوطنية الفلسطينية، لاسيما بين سكان غزة وكان الضفة الغربية، لضمان شروط أفضل للصمود والمقاومة، حيث استمرت في نزع الشرعية من السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس وساهمت في إقبار منظمة التحرير الفلسطينية التي أوصلت صوت فلسطين لأول مرة إلى الأمم المتحدة في عهد الراحل المجاهد ياسر عرفات؟
السؤال الثالث: لماذا اختارت حماس تجاوز الدول العربية والجامعة العربية في اتخاذ قرار الحرب ضد إسرائيل ومراهنتها في المقابل على الدعم الإيراني الذي أبان عن محدوديته وعن الدعم الروسي الذي لا يعول عليه بسبب انشغال روسيا بحربها ضد أوكرانيا؟
السؤال الرابع: ألم يكن الرهان على ما يسمى ب” دول الممانعة” ومن ضمنها سوريا والجزائر وحتى تونس رهانا خاسرا، وهي دول اختارت قمع شعوبها ومواجهة طموحاتهم في الحرية والديمقراطية ودولة القانون، كما اختارت معاداة الوحدة الوطنية والوحدة الترابية لأقطار شقيقة؟
السؤال الرابع: هل يمكن أن يتحقق حلم الشعب الفلسطيني الجريح في إقامة دولته الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية دون الانخراط الكامل والواعي والمسؤول لكل القوى الداعمة للشعب الفلسطيني، لكن دون الاستمرار في دغدغة العواطف وإطلاق العنان للغة الخشب والشعارات الجذابة والبيانات الرنانة وبعيدا كل البعد عن نزعة التخوين وإلقاء اللوم على الآخر، أقول هل يمكن تحقيق هذا الحلم دون القبول بمراجعة شاملة للمسلمات والمنطلقات التي أدت إلى هذا الوضع البئيس دون سعي حتيت إلى تجميع وتوحيد كل قوى الشعب الفلسطيني ودون السعي إلى تحقيق المصالحة العربية الشاملة وإعادة بناء العلاقات في ما بينها على أسس سليمة تراعى المصالح الوطنية والمصالح المشتركة وتترفع عن التدخل في الشؤون الداخلية لأي بلد وعن المس بالوحدة الوطنية والوحدة الترابية لأي قطر؟
رحم الله الزعيم الفلسطيني الخالد الشهيد ياسر عرفات ورحم الله كل شهداء فلسطين ولبنان.