1 ـ من هم الفلاسفة بالأصالة؟
في تاريخ الفلسفة ثمة فلاسفة بالأصالة، وفلاسفة بالاشتغال، والفلاسفة بالاشتغال نوعان: النوع الأول يمثله فلاسفة المهنة ممن يشتغلون كموظفين يتقاضون أجورهم، باعتبارهم مدرسين في التعليم الثانوي والجامعي، جزاء ما يبذلونه من جهد في سبيل تربية الأجيال على التمرن على التفكير الفلسفي، كنمط لتحصيل كفاية التفلسف، كغاية قصوى، لأنها لا تتحقق إلا في النادر، وليس في الغالب الأعم، بحسب طبيعة الفلسفة العصية عن الاستسهال.
والنوع الثاني، يمثله الفلاسفة الذين يمارسون الكتابة حول الفلاسفة وحول الفلسفة، ممن يقدمون النصوص والمفاهيم الفلسفية للقراء ولعشاق الفلسفة، أو ممن يمارسون ترجمة المتون الفلسفية. وهذان النوعان ضروريان، لتحقيق حياة فلسفية جديرة بالعيش. ومن ثمة يجوز نعتهم بالفلاسفة كونهم منشغلين بالفلسفة ما داموا يقومون بمهمة تجعل من الفلسفة شأنا عاما يحضر في قلب المجتمع. لهذا لا يضير المتفلسف أن ينعت المنشغل بالفلسفة بالفيلسوف، من باب التقدير والاعتبار، والفلسفة في مجملها تقدير واعتبار، أما من لم يتشرب الفلسفة بعمق، فلا يمكنه إلا أن يستخف بهذا الأمر، إما كتعبير عن العجز أو كتعبير عن التفاهة، أو عن الغرور. بالنسبة لي شخصيا كل منشغل بالفلسفة هو فيلسوف، ولهذا فأنا لا أتردد في نعت زملائي بالفلاسفة، من باب التقدير الذي علمتني إياه الفلسفة، وليس من باب المجاملة قط.
لكن، من هم الفلاسفة بالأصالة؟ إنهم قد يكونون منتمين لإحدى هاتين الفئتين، أي قد يكونون موظفين أو مؤلفين، ولكنهم هم من يبتكرون أسلوبا فلسفيا جديدا، غير مسبوق بالفعل، أو هم من يبدعون مفاهيم فلسفية تنتسب إلى مجالهم الخاص (دولوز). إنهم من يطبعون التاريخ، ليس بما يسردونه من خلاصات عن الفلاسفة وعن مذاهبهم الفلسفية، ولا بما يحكونه عن صراع التيارات الفلسفية، ولكن بما يبدعونه من طرائق جديدة في السرد، ومن بناء شخصيات فلسفية، قادرة على توليد المفاهيم بوصفها عودة أبدية لانكشاف المفهوم في التاريخ.
2 ـ الفيلسوف متافيزيقيا
ليس الفيلسوف كائنا متافيزيقيا، لأنه يتفلسف فيما وراء الوجود، بل لأنه يفكر متافيزيقيا في الوجود عينه، بما هو وجود حقيقي، أي في هذا الكل اللامتناهي الذي،ينكشف في كينونة المتناهي، أو في المجال الخاص للذات، كذات لا توجد وحسب، وإنما تكون كينونتها الخاصة.
وبهذا فالفيلسوف هو من يقوم بتجربة مزدوجة؛ تجربة ينطلق فيها من الوجود عينه، بما هو موطن اللامتناهي للمحايثة، نحو الكينونة بما هي موطن المتناهي، حيث الوجود سابق أنطولوجيا على الكينونة، من جهة أولى، ومن جهة ثانية فهو ينطلق من الكينونة ليعود ثانية إلى الوجود. وفي كل مرة ثمة تراوح بين الوجود والكينونة.
في هذه المراوحة يتجلى الوجود للكينونة كمبدأ أعلى للمحايثة، كما تتجلى الكينونة في الوجود كنمط لتجربة تعال ينكشف فيها العالم كتوسط بين الوجود والكينونة. وهكذا يكون العالم الوسيط معبرا عن الوجود عينه وعن ذواتنا أيضا، وبالمقابل تكون ذواتنا معبرة في الآن عينه عن الوجود كله والعالم برمته.
3 ـ الترجمة معبر للفلسفة
للترجمة علاقة وطيدة بظهور الفلسفة، بل إن ترجمة الأعمال الفلسفية هي بحد ذاتها تفلسف، لأنها تنبع أولا عن رغبة تعبر عن الحاجة للفلسفة، ولأنها ثانيا فهم وتأويل، وليست مجرد نقل لنص من فضاء جيو-فلسفي إلى فضاء جيو- ثقافي آخر قيد التشكل فلسفيا، أو بالأحرى، إلى فضاء يستعيد- عبر الموجات المتنقلة تباعا ، بحسب بطء أو تسارع حركة الفكر اللامتناهية- تلك المفاهيم الفلسفية التي تستوطن هذه الجغرافيا أو تلك.
وعبر هذا الاستيطان تنشأ العلاقة بالمفاهيم الفلسفية الغريبة عن المنشأ، ويبدأ شكل جديد من التآلف والتلاقح الذي يؤسس لمشهد جديد في الحياة الثقافية لشعب ما ولأرض ما، ولكينونة تتطلع لأفق مغاير للتفكير. وهذا معناه أن ترجمة الفلسفة كحقل آهل بالمفاهيم، هي حدث التفلسف الذي يبتكر الأفق الإبداعي للفلسفة، أي هو منبع كل تشكل جيو-فلسفي جديد، لا تستوطنه المفاهيم المرتحلة والمغتربة فقط، وإنما تولد فيه وعبره مفاهيم جديدة، هي بالطبع في غير أوانها أو سابقة لأوانها، ولكنها تقول الحدث الذي يجلب المستقبل إلى المجال الخاص للكينونة.
ولهذا ففي ترجمة الفلسفة لا يكون السؤال هو لماذا نترجم؟ ولا هو هل السياق الآني ملائم لهذه الترجمة أو تلك؟، ولا هو مرتبط بتوجهات السوق الثقافية، ولا هو لمن نترجم عملا فلسفيا ما؟. وذلك لأن ترجمة العمل الفلسفي، بلا علة، كونه هو بحد ذاته علة، أو سابق لأوانه. وكل ما هو سابق لأوانه، قد يكون بغير جدوى، ولكنه مع ذلك يحمل في طيه ذلك الأمر الباعث على الحدث، كأساس مكين لكل جدوى ممكنة.
4 ـ الفلسفة تعليلية بامتياز
ليست الفلسفة تبريرية، غير أنها، مع ذلك، ليست محايدة؛ كونها محايثة للحدث بما هو حدث في الوجود العارض للفكر، أو بالحري الطارىء في الفكر عينه.
لعل ما يميز مهمة الفلسفة ليس يكون في شيء آخر، سوى الحدث. ومادام الأمر على هذا النحو، كانت الفلسفة تعليلية بامتياز، ليس لأنها تفسر كل حدث جدير بالحدوث، أو أنها تكشف عن أسراره الخفية المستعصية عن الإدراك البشري كما العلم، بل لأنها تختص بابتكار انماط علة كل حدوث ممكن.
وهذا معناه أن الفلسفة إذا كانت تعليلية، فلأنها، لم تبتكر مفاهيم العلة وحسب، بل لأنها تعلل من غير تبرير، حدوث كل حدث، بقدر ما هو منطو في أساس كل مفهوم.
5 ـ هل للفكر حدود؟
هل للفكر حدود؟ لا بالطبع، لسبب بسيط كونه صفة للوجود، أو بالأحرى إن الفكر والوجود سيان، أو هما نفس الشيء (بارمنيدس). وهذا معناه، أن الفكر لا يحده إلا الفكر أو الوجود. هذا المبدأ هو منبع الحرية، أعني حرية الفكر اللامتناهية واللامحدودة، وليس لحرية الرأي المحدودة والمتناهية. إذ أن الحرية من جهة الفكر لا متناهية ولا تحدها سوى حرية لا متناهية بدورها، كونها مبدأ للوجود، غير قابل للقياس أو الحد أو الاختزال؛ أما الحرية من جهة الرأي فهي متناهية، فالرأي لا يحد الرأي كما الفكر، وإنما يحد المسافة المشروطة للرأي، كمبدأ للاختلاف الذي يجعل تقدير الغير ممكنا.
6 ـ التساؤل عن مصير التفكير في العالم ..
إن السؤال الجدير براهنية فلسفة ما، ليس من قبيل هل توجد هذه الفلسفة، في هذا الفضاء الجيو-ثقافي أو ذاك؟ لأن سؤالا كهذا ليس سؤالا فلسفيا، ولا ينبع عن استشكال فلسفي جدير بالطرح، فضلا عن كونه مباشرا وفجا. فلا يمكن لسؤال فلسفي أن يطرح بهذا الشكل لسببين بسيطين مرتبطين بالفرضيتين التاليتين:
أولهما إننا إذا انطلقنا من عدم وجود فلسفة ما في هذه الرقعة أو تلك من الأرض الفسيحة، ما خلا الأرض الأوربية، فإن هذا السؤال هو من غير جدوى أساسا، لأنه لا يتعلق بشيء أساسا، أي بشيء موجود، وبالتالي يكون فاقدا لأساسه الأنطولوجي، ما دام يتساءل عن مضمون شيء فارغ إلا من العدم، وهكذا يتهاوى السؤال ويغدو مجرد نكاية تحكي الفراغ ولا شيء غير ذلك مادام أن هذه الفلسفة التي تنتمي لهذا الفضاء الجيو-ثقافي، والتي نتساءل عن وجودها لا توجد أصلا، وبالتالي يكون هذا السؤال ليس سؤالا عن الفراغ، وإن كان الفراغ بحد ذاته جديرا بالطرح من الوجهة الميتافيزيقية، بل يكون سؤالا فارغا، بل فاقدا تماما للأهلية التي تجعل منه سؤالا فلسفيا جديرا بالطرح. أما إذا انطلقنا من الفرضية المضادة، وقلنا في جواب عن السؤال السابق، بأن ثمة فلسفة ما توجد في هذا الفضاء الخاص بشعب ما وبلغة ما، فإن هذا الوضع يدخلنا في قلب سجال مقيت للدفاع عن رأي نقيض، وفي هذه الحال فنحن لا ننتصر للفلسفة كنمط للتفلسف، وكتوطين للفلسفة في الفضاء الجيو-ثقافي الخاص بنا، بقدر ما ننتصر لرأي بذيء ما دمنا لا نستشكل عالم العيش الذي يخصنا، وإنما نتموقع بلا وعي، في طرف الدفاع عن قضية لا يحكمها نزاع فلسفي حول ماهية الفلسفة وحول اقتدارنا على التفلسف من موقعنا في المجال الأرضي الخاص بنا، وإنما تحكمها نزعة مركزية استعلائية، لا تهتم بتوجيهنا نحو السؤال الأعمق، أي من منطلق ما الذي يعنيه التفلسف بالنسبة لذواتنا المشتركة، في عالم صارت فيه الفلسفة بلا موقع، وبلا مركزية مهيمنة. باختصار فإن سؤال هل توجد هذه الفلسفة أو تلك في هذه الرقعة أو تلك؟ ليس سؤالا فلسفيا جديرا بالطرح، وما دام قد طرح بهذه الكيفية الآن وهنا، فإنه يكون أبعد ما يكون عن التفلسف، كونه سؤالا متجاوزا، وغير راهني بتاتا، أو أنه مسكون بنزعة رينانية متمركزة حول الغرب. وذلك لأن ما يتلو هذا السؤال لن يكون سوى مجرد سجال، أو جدال عقيم.
إن السؤال الفلسفة الجدير بالطرح في هذه الآونة ليس قط تساؤلا عن وجود بعينها، بقدر ما هو تساؤل عن مصير التفكير في العالم الذي ننتمي إليه جميعا، أي في هذا الفضاء الجيو-ثقافي الذي يجعل منا ذواتا متفلسفة، من منطلق الحق الكوني في الفلسفة، كانتماء لفضاء جيو-فلسفي جديد، صارت فيه الفلسفة بلا موقع وبلا حدود، وصار فيه مخطط المحايثة رقميا بامتياز، كما صار فيه المفهوم يطالب بأرض جديدة، وإعادة توطين جديد.
7 ـ الشخصية المفهومية والمفهوم .. ابتكار الفلسفة
ليس ثمة تطابق أو تماه بين شخص الفيلسوف و”الشخصية المفهومية” (مفهوم دولوزي)؛ إذ أن الشخصية المفهومية والمفهوم هما معا من ابتكار فيلسوف جدير بهذه التسمية. وذلك لأن كل شخصية مفهومية، هي مستقلة تماما، بوصفها تشكيلا لا من جسد وروح، وإنما من اسم علم شخصي ومفهوم، لكنها تعبر مع ذلك تعبر عن وجهة نظر الفيلسوف، أو عن المفهوم الذي يبدع من خلاله شكلا جديدا للتفلسف، بقدر ما يبتكر من خلاله، أيضا، في الآن ذاته نمط كينونة غير مسبوق، كفن لعيش جدير بحياة الشخصية المفهومية والمفهوم والفيلسوف.