1 ـ الشيء بالشيء يكون الشيء، في ذاته ومن أجل ذاته؛ فلا شيء يوجد من العدم. إذن ما الذي يكونه الشيء؟ وما الذي يكونه العدم؟ ما يكونه الشيء ليس إلا هذا الموجود الناشىء عن شيء من نفس الطبيعة. أما الطبيعة فهي هذا الشيء المطابق لذاته بالتمام، كونها مبدأ ذاتها، ومبدأ كل شيء آخر، غير أن هذا الشيء الآخر، هو غير مطابق للفي- ذاته، لسبب بسيط أنه لا يوجد- في- ذاته، إلا ليكون من- أجل- ذاته (الكينونة) ومن أجل- الموت. والحال أن المسافة الفاصلة في الوجود بين الموجود في -ذاته، والموجود لأجل -ذاته، منخورة بسلب مزدوج خلاق، أي أنه سلب من- أجل- الكينونة، فإنه كذلك سلب من- أجل- الموت في نفس الآن. وهذا معناه أن ما يوجد فإنه يكون، وأن ما يكون، هو وحده، يموت. وهذا يعني أنه في نهاية مسافة داخل الوجود ينبعث العدم، لا من حيث هو عدم خالص مقابل للوجود المحض، بل من حيث هو الحد الأقصى لكل شيء يكون. وهذا عينه هو البرهان الأنطولوجي على أن لا شيء يصدر عن العدم، حتى وإن كان العدم هو الغاية الأخيرة للأشياء التي توجد بالطبيعة وفي الطبيعة من أجل الكينونة ومن أجل الموت.
2 ـ لا جديد تحت الشمس؛
ليس في الوجود، من حيث هو وجود جديد، لأن ما يحدث في الوجود لا ينتمي لخاصيتنا البشرية، ولأن هذا الذي يحدث إنما هو الوجود عينه في ديمومته اللامتناهية. ومن ثمة فنحن لا قبل لنا بما يحدث في الوجود، لأن الحدث الذي ينتسب للوجود، هو مطلق حدوث: شمس تشرق وتغرب كل يوم. وبالتالي فكل ما يحدث ليس من قبيل الجديد أو القديم، ما دام أن ما يحدث هو من نسيج الضرورة المطلقة، وليس من نسيج الزمان.
إذن، ما هو الجديد؟
الجديد هو الحدث الذي ينسجه الزمان، أي ما يطرأ على نمط كينونة ما، من أحوال إزاء الوجود برمته وإزاء الغير، مما تحمله الضرورة والصدقة في آن معا. ومن ثمة لا جديد يحدث إلا في علاقة او في وجود مشترك، إزاء الوجود وإزاء الآخر، وبمعية الغير؛ حيث ينبع الزمان كأفق مفتوح للكينونة هنا والآن. وهذا معناه أن الجديد هو حدث يحدث في مجرى علاقة أنطولوجية تربطنا بالوجود من جهة الضرورة، كما تربطنا بالغير، من جهة الصدفة. ( إن الشمس تشرق وتغرب، غير أننا نعيش جميعا في هذا العالم الذي تسطع فيه الشمس وتأفل). والحال أن الجديد أو الحدث كواقعة للزمان، هو التعبير الأدق عن هذا التفاعل بين الضرورة والصدفة داخل العلاقة التي تحكي الزمان والإنسان والتاريخ.
3 ـ ما بين الفلسفة بوصفها محبة الحكمة، وما بين الفلسفة بوصفها إبداعا للمفهوم، أو بالأحرى للتصور- Begriff/ The Concept ، مسافة حياة فلسفية جديرة بالعيش. أعني أن كل فلسفة جديرة بهذه التسمية، هي بالأساس، أو من حيث المبدأ محبة للحكمة، والحال أن الحكمة المبتغاة ليست شيئا آخر سوى العيش وفق مقتضى حكمة الوجود، أي أن الغاية من التفلسف ليس هو بلوغ الحكمة، فالفيلسوف يتهيب الحكمة ككمال، لهذا لا يتقمص دور الحكيم ولا يزعم ذلك، وإنما ينشد بلوغ أعظم كمالات الحكمة، أو بالأحرى إنه ينشد تلك الحياة الفلسفية التي تنعطف فيها كينونته نحو كمال تنكشف فيه حكمة الوجود على نحو أعظم. والحال أن في كل انعطاف للكينونة نحو كمال أعظم للحكمة، ينشأ اقتدار الفيلسوف على ابتكار المفهوم، بما هو أيضا ابتكار لحياة فلسفية جديرة بالعيش. إننا لا نبتكر المفاهيم لأنها مجرد تصورات مجردة، بل لأن ابتكارها يجعل منا أكثر اقتدارا على إبتكار نمط كينونتنا في العالم. إن العالم ليس مجرد معطى لوقائع وجود محض وحسب، بل هو أيضا معطى لمفاهيم تطالب دوما بحياة جديرة بالكينونة، أي بحياة فلسفية نبلغ من خلالها أقصى كمال أعظم.
4 ـ ثمة عدة مداخل للفلسفة، غير أن اهم مدخل للفلسفة يظل هو مدخل الميتافيزيقا، لأن الميتافيزيقا كانت ولاتزال تعبر عن مفهوم الفلسفة الأولى، كمنبع أول وأخير للتساؤل حول مبدأ الوجود أو علته الكافية: (لماذا ثمة وجود بدلا من العدم؟) ، ولأنها من جهة أخرى تعبير عن سؤال الكينونة والزمان، أوالتاريخ والمصير، ( ما الكينونة بالنسبة للوجود؟ ومن هو الكائن بالنسبة إلى المكون (بفتح الميم وضم الكاف)؟ وما- او- من هو الزمان؟ ما التاريخ؟ ما المصير، و من هو الإنسان؟ وما الغاية الغائية أو الأخيرة للإنسان؟).
إذا انطلقنا من الميتافيزيقا كفلسفة أولى، أو كعلم للحكمة، كما سماها أرسطو، بوصفه علما يبحث في علل الوجود، فإننا نبلغ منتهى حكمة مفادها أن الوجود وجود بكيفية بارمنيدسية، أي أن علة الوجود هي الوجود عينه، كمنطو على ذاته وصفاته وأحواله. وهذا يعني أن لا شيء يصدر عن العدم على الإطلاق. فعلة الوجود الأولى لا تعدو أن تكون إلا وجودا ضروريا، و بذلك يستحيل أن يكون صائرا عن عدم محض، او أن يكون هذا العدم سابقا على وجوده. أما يوجد فقط، فهو موجود ينعدم، او يوجد من أجل العدم. إذ أن العدم بالنسبة للوجود لا يوجد قط لا قبلا ولا بعدا، ولكنه بالنسبة للموجود، إنما يوجد لاحقا. وفي الحقيقة، هو لا يوجد بالفعل، وإنما ثمة كائن ينعدم، وليس ثمة عدم إطلاقا،
أي ثمة كائن يرتد إلى الوجود عينه، أو هو وجود من أجل الموت. والوجود من أجل الموت هو البرهان الأنطولوجي على الديمومة، وليس على العدم. وهذا معناه أن الديمومة هي نمط أصيل للوجود الذي ينكشف فيه الكون والفساد، كتعبير عن مبدأ علة مفاده، أن المنشأ يدوم، ولا شيء يدوم في الآن عينه، أو أن ما يدوم ليس إلا الوجود أما لواحقه فلا تدوم، كون الوجود يحتفظ بالدوام في ذاته ومن أجل ذاته فقط، أما الموجود فلا يمنحه سوى قسمة الزمان، أي أنه يهبه قسمة الشيء من حيث هو موجود من أجل الفساد كشيء ما من أشياء الطبيعة، أو من أجل الموت ككائن من بين الكائنات الحية.
5 ـ الإنسان يخشى الفراغ، أما الطبيعة فلا تخشى سوى ملاء يفسد الفراغ.