1 ـ بمجرد ما يتضخم الخطاب الشعبوي “المقيت”، إما بسعار خطاب ديني أجوف من شدة افتقاره للعقل، كونه لا يعقل قط وجوده في أفق فكر يتسع للجميع، أي بمقتضى وجود آخرين ليست لهم بالضرورة نفس الرؤى والقناعات؛ وإما بسعار خطاب تقنوي معاد للفكر، من شدة التفاهة كتعبير عن تصحر الروح، فإن المدينة، كنمط حيوي لحياة مشتركة، تغدو في عرضة عدم سحيق. وليس العدم السحيق سوى تنكر للفكر كتوجه نحو العقل، أو كتنكر للعقل كمأوى لفكر يعقلن الوجود في المدينة. وتلكلم مأساة مدن تتعرض لقرارات هوجاء، تستهدف الوجود الجمالي، كأفق فني يبلغ بالمدينة أقصى كمالات البهاء، أو كأفق فكري يستهدف إقصاء الفلسفة من الوجود في قلب المدينة، هكذا يعيد التاريخ نفسه باجتثاث الفن كأفق للمدينة، أو بمعاداة الفلسفة كبعد لا متناه للروح. ولنتذكر فجيعة هباتيا، تلك الفيلسوفة المصرية الإسكندرانية التي تشهد على هذه الواقعة التي تتكرر اليوم في مصر ، ولنتذكر أيضا محنة ابن رشد ذلكم الفيلسوف الذي وهب نفسه للفكر من أجل حياة جديرة بجمالية الوجود. أو حينما يتم وأد المدينة، كفضاء حر فسيح للكينونة.
2 ـ ما الحقارة؟
الحقارة غير التحقير، بوصفها ناتج انفعالات فردية، كتعبير عن أمراض النفس كالأنانبة، بوصفها إفراطا في الإعجاب بالنفس، أو ناتجا عن حب تملك الغير وتسخيره لأجل أغراض الذات، أي بوصفه الغير مجرد وسيلة، وليس ك”غاية في حد ذاته” (كانط).
إذن ما الحقارة؟
إنها ذلك الفعل الذي ينطوي على الشر الجذري، لا بوصفه شرا فقط يستهدف تحقير كل آخر، بل بوصفه إرادة للتوسع في الوجود على حساب الغير، أي هو إرادة تستهدف طي وجود الآخر في عدم سحيق، أو بالأحرى هو نزعة تطهير، لا تتوانى عن اقتراف الجريمة القصوى، بوصفها إبادة للآخر مطلقا، من أجل التملك والاستحواد، والعيش في غفلة عن الجميع، أو في أفق عالم بلا ضمير.
3 ـ كل مآسي البشرية تنبع من العجز، أي من انعدام الاقتدار على الوجود. لذلك ينتسب العجز للموجود لا للوجود، بوصفه حالا أو نمطا للكائن، لا بوصفه صفة من صفات الوجود؛ وهذا معناه أن العجز مجرد نمط أو حال من أحوال صفات الوجود، أما الاقتدار فهو ليس فقط نمط كائن موجود، بل هو أيضا من صفات الوجود اللامتناهية، بوصف الوجود يوجد بذاته ولأجل ذاته، كمبدأ وكغاية، أي كمنبع للموجودات كلها، وكغاية غير غائية، يتسع فيها الوجود كامتداد متصل، متواصل بلا حدود.
وبالتالي، فما ينبع عن العجز لا يعدو أن يكون:
-إما تعاسة ناتجة عن انعدام القدرة على العيش بجانب آخرين، وكأن كل آخر هو الجحيم بعينه.
-أو كآبة أو كاكتآب بلغة السيكولوجيا والطب النفسي، ناتج عن الارتياب في الذات، وعن عدم القدرة على التصالح معها في أفق حياة سوية.
-أو فظاعة، كتعبير عن الرفض المطلق للوجود بالمعية أو للاختلاف كتعدد وتنوع ولا تناه لأنماط الكينونة، وفي أفق العيش مع الآخرين، أي كنمط لفعل تطهير الأرض من كل وجود مختلف، أي كشكل من أشكال الاختلاف الزائف، بحيث يصير هذا الاختلاف لا ينتسب للتعدد والتنوع والثراء، بل ينتسب للتفوق، ولأحقية زائفة تدعي أنها وحدها هي هذه الهوية الهووية المصطفاة والمنتقاة عرقيا أو دينيا، أو حتى لغويا، لتملك الوجود برمته، وكأن الوجود برمته يسعى للتطابق معها، بوصفها هي مبدأ كل شيء،ووسيلته وغايته أيضا.
4 ـ الوجه بطبيعته رقمي بامتياز، كونه يشهد على كل هذا المحو الذي يطال محو وجه الآخر البشري، بوصفه شاهدا على بشاعة قتل عشوائي يستهدف تملك العالم، والعيش بلا معية، أو بلا أفق إنساني، او في جوف هوية هووية لا تنتعش سوى قعر الكراهية أي في قاع عدم سحيق، من شدة بغض الوجود الفسيح المعطى للجميع، وفي كنف التعايش مع الغير مطلقا.
5 ـ لا يمكن أن ننسب للفلسفة، بما هي فلسفة أولى بالمعنى الأرسطي، أي كعلم للحكمة، ما يحدث في العالم من فظائع ضد الإنسانية، فلا يمكن للفلسفة إلا أن تكون ضد أية جريمة كانت حتى ولو لم ترق إلى أن تكون جريمة إبادة ضد البشر، فبالأحرى أن تكون بمثل هذه البشاعة التي يخجل منها العار عينه. أي مهما كان مصدرها، سواء من أفراد أو من قوة غاشمة كهذه التي نشهدها اليوم في هذا الظرف العصيب. قد تكون لبعض الفلاسفة عين مغمضة، ولكن هذا لا يعني إدانة الفلسفة، وإنما هذا يعزى للعجز عن بلوغ تمام الحكمة، أو لمواقف شخصية لبعض الفلاسفة الذين يستحضرون في حساباتهم الحفاظ على المكاسب، عوض تحمل الخسارات.
ويبدو أن صديقنا المرحوم لفيناس في مأزق حرج الآن، وهو الذي حاول قلب معادلة الفلسفة لصالح الإتيقا، كفلسفة أولى، وكميتافيزيقا تنبع من تقدير الآخر، حيث النداء إنك لن تستطيع أن تقتل قط، يغدو هو أنك تستطيع أن تقتل بعين مغمضة، دون اعتبار لأي وجه ولأي نداء.
6 ـ لا تكمن شروط إمكان العالم، في شيء آخر سوى الاقتدار على الفكر، لا من حيث هو فكر في ذاته، إذ لا وجود لفكر في ذاته، ما دام هو فقط صفة من صفات الوجود، أي أنه ليس بجوهر قائم بذاته وفي ذاته ومن أجل ذاته، أي كعلة ذاته Causa sui قط (سبينوزا)، بل من حيث هو فكر لأجل ابتكار الوجود ثانية، لا بوصفه المعطى كهبة للكائن، وإنما بوصفه إمكانية لصنع عالم ينكشف فيه الاقتدار على الفكر، كنمط للكينونة في أفق الزمان. من حيث أن الزمان”ينبع من المستقبل”(هيدغر). بعبارة أخرى إن العالم لا من حيث هو عالم ذوات مستقلة بذاتها، بل من حيث هو عالم ذوات مشتركة، هو ناتج الاقتدار على الفكر، كنمط وجود، أو كانكشاف لكينونة تقاوم العدم، لا بما هو عدم محض، ما دام أنه محال، بل كتعبير عن العجز، أي عن نمط وجود غفلي، مفرغ من الزمان والفكر، و من أية رغبة ينشأ فيها الاقتدار.
7 ـ التعايش هو الأصل، وليس هو الهوية الهووية المحضة والمغلقة على ذاتها، ولذلك لا ينتمي الشعب لأصل عرقي أو عقدي، بقدر ما ينتسب لعلاقة الانتماء للأرض. وهذا معناه أن كل أرض هي ملك لمن يتعايش فيها، بغض النظر عن الأجناس كلها. أما تملك الأرض على مبدأ عرقي أو ديني، فهو أصل كل صراع مقيت، غايته تطهير الوجود من الآخر. والحال أن الأرض، كفضاء للتعايش هي قابلة لأي تملك يستهدف الاستحواذ على الوجود. إن مفهوم الشعب أرحب من كل اختزال في هوية ما، ما دام أن الشعب بمقتضى التعريف والصيرورة، هو ما يتشكل في أفق تعايش خلاق، فلا يرتبط قط بأوهام بشرية معطوبة بمرض الجينات، أو بكراهية ذلك الغريب الذي يتخذ من هذه البقعة من الأرض أو تلك مأوى لوجوده الخاص، ومن قابلية الأرض للانتماء. أما الكراهية واجتثات الآخر من الأرض، فهو سلوك غير أرضي، إنه ينتسب فقط للخسة البشرية، لا للإنسانية كأفق للعيش في أرض تتسع للجميع.
8 ـ الباحثون درجات ليس بقدر الاقتدار وحسب، بل بقدر خصالهم النبيلة، أو بقدر شيمهم السامية، أو صفاتهم الوضيعة؛ لذلك ثمة ثلاث درجات للباحثين.
الدرجة الأولى من يمتلكون الاقتدار على إنتاج الأفكار، ممن يسهمون في إبتكار أساليب غير مسبوقة في الثقافة، أي في إبداع الحياة كفكر خلاق يتجدد باستمرار، كأفق يستجيب لنداء المستقبل. وهؤلاء هم المبدعون والمفكرون بحق، أي بالأصالة والجدارة والاستحقاق.
الدرجة الثانية ممن يمتلكون الاقتدار على تسوق الأفكار في مبضع المعرفة العام، وإعادة إنتاج أساليب المعرفة، كشكل مسبوق من أشكال الفكر، وكعملية ناجعة لتقاسم تجارب الفكر. وهؤلاء هم المعلمون والأساتذة والأكاديميون المتفانون في نقل المعرفة، بدون ادعاء، أي بدون تطاول على المعرفة كما هو حال بعض الأكاديميبن المفلسين، ممن ينصبون أنفسهم حراسا على الفكر والإبداع.
أما الدرجة الثالثة من الباحثين، فهم لا يمتلكون اقتدارا على شيء ، سوى التبضع من سوق تهريب الأفكار في جوف الظلام، فلا يعنيهم أي شيء جدير بالبحث، سوى مكاسب هزيلة، كوسيلة للتسلل قصد الارتقاء في سلم الزيف الجمعي.
9 ـ الجريمة القصوى، إن لم نقل الجريمة المطلقة، كشكل من أشكال الشر الجذري، تنشأ عن فكرة فضيعة، بعدم قبول التعايش مع الآخر جنبا إلى جنب أي داخل فضاء فسيح يتسع للجميع، وفي أفق كينونة مشتركة، أو بعدم قبول العيش بجوار الآخر مطلقا؛ لذلك تكون الإبادة الجماعية للغير إحدى أشنع نتائج الجريمة القصوى، بوصفها جريمة ضد الإنسانية جمعاء.
10 ـ عندما نتساءل عن الإنسان كشيء من بين أشياء الوجود بعامة، شأنه شأن أي شيء يوجد لا من أجل علة غائية، وإنما بعلة الوجود عينها، أي من خلال تلك العلة التي تنطوي في ذاتها على الانوجاد، كأشياء توجد لا لأجل غاية ما، بل لأنها يجب أن توجد وحسب، مادامت مجرد أشياء ممتدة تنتسب لجهة الامتداد، فإن سؤالنا عن الإنسان سيكون لا محالة هو: ما الإنسان؟ بذلك يكون الجواب عن هذا السؤال، هو أن الإنسان هو هذا الذي يوجد كما الأشياء يجب أن توجد، أي أنه مجرد عبارة عن هذا الشيء الذي نسميه الإنسان أي أنه مجرد عبارة وكفى.
وبالمقابل، فعندما نتساءل عن الإنسان كشيء يوجد متميزا عن بقية الأشياء التي تشاركه الوجود، أي كشيء يوجد كنمط يعبر عن حال الفكر، قدر تعبيره عن حال الامتداد، فإن سؤالنا سيكون هو من هو الإنسان؟ وسيكون الجواب هو أن الإنسان تعبير، لكن المفارقة الغريبة هي أن الإنسان كتعبير، لا تفضي دوما نحو اكتمال الوجود ككينونة من جهة الاقتدار على ابتكار افق وجود للعالم، بل إنها قد تفضي بالقدر ذاته إلى عدم، لا من جهة العجز فقط عن الوجود، بل من جهة إرادة التعديم، إذ هو وحده يمتلك هذا النزوع نحو بلوغ كمال أعظم للوجود، أو نحو الارتماء في أقصى هوة للعدم.
ـ الصورة من الأرشيف ـ