1 ـ لا ينتج عن تضخم المعرفة بالايمان صراع بين مبدأ الإيمان واللايمان ..
ما يفسد الإيمان، ليس هو اللاإيمان، وهو غير الإلحاد، لأن مفهوم الإلحاد ينتسب للمعرفة الإيمانية، كونه ناتجا عن حكم قيمة عقدي ما، بل هو تضخم المعرفة بالايمان التي نطلق عليها اسم عقائد إيمانية. وهو تضخم أشبه بزيادة تكلفة المعيشة، حيث ترتفع الأسعار وتفقد النقود التي زادت كميتها عن حجم السلع المتاحة قيمتها. أعني أن المعرفة بالإيمان إذا تجاوزت حدود الطبيعة الإنسانية أو الأفق المتاح للتجربة الروحية في حدود الإيمان البسيط، أي في حدود الأمن الروحي في حده الأدنى، وأضحت بمثابة معارف عقدية متضخمة تطالب البشر بما يتجاوز طبيعتهم الإنسانية، فإنها تفقد قيمتها، أي أنها تفقد الأساس الذي ترتكز عليه، وهو الإيمان عينه. لذلك لا ينتج عن تضخم المعرفة بالايمان صراع بين مبدأ الإيمان واللايمان، بل بين العقائد التي نصبت نفسها وصية على الإيمان، وفقا لمبدأ الأحقية وليس لمبدأ الحقيقة ، دون أن يكون لكل منها المقابل الإيماني أو الروحي الذي يكشف قدرتها على التعبير عن الإيمان. وهذا معناه أن أشد الصراعات فتكا، هي تلك التي تقع بين العقائديين الذين تضخمت لديهم المعارف العقدية التي تتنافى والطبيعة الإنسانية، كما تتنافى مع الإيمان السمح عينه الذي لا يطالب بأي شيء سوى بكمال روحي للإنسانية جمعاء.
2 ـ منبع دين الفطرة السليم هو حب ذلك الغريب الذي لا تربطني به علاقة عقيدة ما ..
لا يطابق الدين فطرة الطبيعة البشرية، إلا إذا كان موجها مباشرة للعامة من الناس؛ أما إذا كان موجها للعامة عبر توسط الغير، ممن يملكون مفاتيح السبيل إلى الحق أو الضلال، فإنه يتنافى بالضرورة مع الفطرة، أو الطبيعة الإنسانية. وذلك لأنه يغدو دينا متحولا ثقافيا يجافي الحياة على الفطرة، كرغبة في مجرد حياة آمنة روحيا، ويصير أشبه ما يكون بممارسة تعادي الفطرة التي لا تعني سوى محبة العيش وفق الطبيعة بسلام وطمأنينة وحب للغير، من غير أي نزاع على العقيدة ولا على الأرض الفسيحة، ومن غير أية كراهية للآخر، وذلك لأن منبع دين الفطرة السليم هو حب ذلك الغريب الذي لا تربطني به علاقة عقيدة ما، بل علاقة مسئولية، كعلاقة أخلاقية من غير مقابل ومن غير مساومة بالعقيدة من أجل سلامة وجوده، أي من غير احتواء.
والحال أن دينا للفطرة، إذا كانت عقيدته سليمة، فلا يمكن أن يكون قائما قط على العداء، كقاعدة لبسط الهيمنة بالولاء، أو للاستنفار ضد الغير كبراء، بل يكون بالضرورة محبة للغير من غير حدود، وبدون مقابل، ومن غير غاية غير روحية تتمثل في بسط النفوذ كاستقواء أو إخضاع للآخر.
3 ـ أية ديانة ما لن تكتسب قط اقتدارها على الانخراط في عالم الروح الفسيح ..
ما لم يقتصر الدين بعامة على مجرد الإيمان البسيط الذي يضمن حدا أدنى من الأمن الروحي للبشرية كافة، بوصفه محبة للخير بإطلاق، فإنه لا محالة سيصير- والوقائع التاريخية شاهدة على ذلك- منبعا لا للقلق الروحي، بل للتمزق والتناحر المذهبي الذي يقوض أسس التعايش البشري. وهذا معناه أن أية ديانة ما، وخاصة الديانات التوحيدية، إن لم تتحرر من جملة العقائد المذهبية الملحقة بها، خاصة تلك التي تقوم على كراهية عقائد أخرى ومعاداة من تعتبرهم، في تصنيفها العقدي بالضالين الفاسدة عقائدهم، فإنها لا محالة ستكون منبعا دائما لتهديد الوجود بالمعية، أو التساكن البشري. وإذا كان جوهر الدين من حيث المبدأ هو الخير، فإنه بمحض المبدأ عينه محبة لا متناهية، كونها تشمل البشرية جمعاء. إن عالم اليوم، هذا العالم الرقمي، الذي انهارت فيه الفوارق، بما فيها فوارق العرق و اللون واللغة والدين، لا يحتاج لشيء أكثر مما يحتاج إلى عودة كل ديانة إلى حدود الإيمان البسيط، الذي يعترف باللآخر كما هو، وليس كما يجب أن يكون وفق منظومتها العقائدية التي تضخمت بفعل السياقات التاريخية.
وهذا معناه أن أية ديانة ما لن تكتسب قط اقتدارها على الانخراط في عالم الروح الفسيح، أو في الفضاء الحر للإنسانية، وما لم تنخرط في تحرير ذاتها مما لحقها عبر التاريخ من لواحق النزعات العقدية التي نأت بها عن سبل أمن روحي يشمل سلامة البشرية برمتها.
4 ـ قبل أن نتساءل عن أصل كل فوبيا تجاه ديانة ما ..
عندما يغرد تأطير ديني ما، خارج نسق الدولة المدنية (خاصة في دول الغرب)، وحينما يتنافى مع مبادئ المواطنة وقواعد السلوك المدني، وحيثما يوغل في ترسيخ مبادئ الولاء والبراء، في مجتمعات لا يجمع بينها سوى مجرد عيش مشترك بين الذوات المشتركة التي تتبادل قيم الاعتراف وفضائل تقدير الغير، وحيثما ينهج نحو حشد جموع التابعين من أجل النصرة والغلبة والتمكين لدين ما دون غيره، او لملة ما دون سواها، أو لعقيدة ما دون الأخرى، أو لمذهب معين دون مذاهب أخرى؛ فإنه لن يقود إلى أعظم كمال للروح، وإنما سيؤدي، لا محالة إلى تمزيق الروح، وتسميم الحياة، وتكسير العلاقة الأخلاقية القائمة على المسؤولية تجاه الآخر.
وقبل أن نتساءل عن أصل كل فوبيا تجاه ديانة ما، تتوغل في مرضى النفوس العرقية، علينا أولا أن نتساءل أيضا عن تلك الخطابات الدينية التي تغذي العداء وكراهية الغير، وتبخيس الحياة مع وبجوار الآخرين، بوصفهم ذواتا وخصوصيات أخرى، لا يشكل اختلافها وتنوع أنماط حياتها تهديدا للأمن الروحي، بل إسهاما يرتقي بالروح نحو أعظم الكمالات.
خلاصة الأمر أن العقائد الفاسدة، ليست هي تلك التي تختلف مع موروث عقيدتي الدينية، فكل العقائد إذا كانت تستند إلى الإيمان بإطلاق، تعد عقائد صحيحة صحة مطلقة، وذلك لأنه يستحيل تجريبيا قياس صحة عقائد وفقا لمعايير الذات المنتسبة لهذه العقيدة أو تلك,؛ بل إن العقائد الفاسدة والزائفة هي تلك التي تنسف العلاقة القائمة بين البشر، وتقوض حياة الروح بما هي تعبير عن حياة المدينة، كفضاء حر فسيح لتفتح الكينونات في العالم.