لا يمكن أن نبحر في العالم السحري للسينما، دون أن نعرج على السينما الإيطالية، تلك السينما التي أصبحت مرجعا لكل عشاق الصورة بأبعادها وعوالمها الحقيقية التي تنضح جمالية، وواقعية، وشاعرية… هي المدرسة التي جذبت إليها أجيالا عدة من كل بقاع العالم، وأثرت عليهم بفلسفتها، وحكمتها، وسحرها.
مرت السينما في إيطاليا بمراحل مختلفة، وكشفت لنا منذ انطلاقتها الأولى عن عدة أسماء تحولت فيما بعد إلى آباء ورموز قادت قاطرة السينما بهذا البلد، وساعدت على تثبيتها وإعطائها هوية خاصة ميزتها عن باقي المدارس السينمائية كأنطون غوليو براغاليا، وروبيرتو ليوني، وأليساندرو بلاسيتي، وماريو كاسيريني، وجيوفاني باستروني… ومع ذلك ورغم انطلاقتها السلسة هذه، إلا أنها لم تكن في مأمن من المشاكل والأزمات، فقد تعرضت لعدة نكسات كانت أخطرها الحرب العالمية الأولى التي أدخلتها في ركود تام، لكنها استفاقت بعدها وتابعت طريقها بخطوات حذرة، قبل أن تصاب مجددا بلعنة الحرب، الحرب العالمية الثانية، هذه الحرب التي أثرت بشكل كبير في مسارها وأيديولوجيتها، وغيرت من خصائصها وآليات اشتغالها، فاتخذت من الآلام، والدمار، والتحولات الإنسانية، والإجتماعية، والإقتصادية…التي عرفها المجتمع الإيطالي مواضيعها، وأبانت بذلك عن قدرتها على الوقوف مجددا ومتابعة المسير، لكن بشكل أكثر نضجا واستقلالية، فأسست لنفسها وييد جيل جديد من السينمائيين مدرسة مغايرة للسائد، سميّت ب”الواقعية الجديدة” مستفيدة من خبرة بعض المدارس الأخرى التي سبقتها كالسينما السوفياتية، ومن بين الأسماء التي ساهمت في خلق هذا التيار الجديد وأغنته بأعمالها لوكينو فيسكونتي، وروبيرتو روسيليني، وفيتوريو دي سيكا… وفي وقت لاحق وبشكل أكثر حداثة وثورية نجد مايكل أنجلو أنطونيني، وباولو بازوليني، وفيديريكو فيلّيني… وغيرهم، لم تتوقف السينما الإيطالية عند هذا الحد من الأسماء، بل استمرت في إنجاب الكثير من السينمائيين الذين حملوا المشعل واستمروا بالدفع بها إلى الأمام، صحيح أن الظروف تغيرت والسينما الإيطالية تخلفت بعض الشيء، لكنها مازالت تُتحفنا من حين إلى آخر بأعمال وتحف سينمائية نُحتت بأيادي أسماء من الجيل الجديد، أو من جيل عاصر التحولات وما بعدها، ذاك الجيل الذي استغل بذكاء وحكمة ما عاشته إيطاليا وأوربا عموما، وأَفرزَ من المخاض سينما حقيقية، ذات رؤية صادقة وواقعية، كان لها أثرا على عشاق الشاشة الكبيرة، كالأخوين المخضرمين باولو وفيتوريو تافياني، اللذان استمرا في الإخلاص لهذه المدرسة الجديدة إلى آخر لحظة من حياة فيتوريو، الذي رحل وترك خلفه شقيقه بعد مسيرة سينمائية طويلة وناجحة، كسبا فيها الرهان وتركا من خلالها بصمة واضحة على الفيلموغرافيا الإيطالية باختلاف مشاربها، بقي باولو وحيدا لكنه قاوم الزمن وقاوم حزن وآلام الفراق، وفاجأنا سنة 2022 وهو في التسعين من عمره بآخر عمل له في مساره، بل في حياته ككل قبل أن يغادرنا سنة 2024 ، وهو فيلم “وداعا ليونورا” الذي يعتبر ثاني فيلم ينفرد بإخراجه بعد وفاة شقيقه.
كان الأخوان تافياني حتى آخر عمل لهما معا، يربطان عشاق السينما الإيطالية بماضيها، يذكروهم بريادة واقعيتها المنغمسة في القراءة المعمقة، والجادة، والمحايدة، البعيدة عن الذاتية والرومانسية الصارخة للظواهر الإجتماعية والإنسانية والسياسية المحيطة بالمجتمع الإيطالي بعد الحرب، وهذه القراءة رغم جديتها وعمقها الفكري التأملي، عولجت بخطاب سلس، وبلغة سينمائية مبسطة لكنها بليغة يطغى عليها التشويق الدرامي، وجمالية الصورة… الأخوان تافياني استلهما أسلوبهما السينمائي من داخل هذه المدرسة، ووظفاه في أعمالهما، لكن بتحيز كبير لأيديولوجيتهما اليسارية المعادية للفاشية، وأدواتهما الفنية الخاصة، وخلفيتهما الثقافية والأدبية، هذه الأخيرة التي طغت كثيرا على أعمالهما، حيث عززا رؤيتهما الفنية والفكرية بتوظيف أعمال أدبية لشعراء وأدباء ومسرحيين مرموقين، كما حدث في فيلمهما ”كان لسان ميشيل ديك” 1972 الذي اقتبس من قصة لتولستوي، وفيلم ”الأب السيد” 1977 المقتبس من رواية للشاعر والروائي الإيطالي غافينو ليدا، وفيلم ”كاوس” 1984 المقتبس من قصص للكاتب والمسرحي والشاعر الإيطالي لويجي بيرانديلو، وفيلم ”التجاذب الاختياري” 1996 من رواية ليوهان غوته، وفيلم “قيصر يجب أن يموت” المقتبس من شكسبير وغيرها من أعمال.
الجميل في تجربة هذا الثنائي أنها مختلفة عن باقي التجارب التي خاضها باقي الثنائيات المشكلة من أخوين، وهي على كل حال قليلة جدا بل نادرة، فلا يتواجد في السينما العالمية بتاريخها الممتد سوى هذا الثنائي من إيطاليا، إضافة إلى الأخوين داردين من بلجيكا، والأخوين كوين من أمريكا، كان الأخوان تافياني منسجمين بل متماهيين مع بعضهما البعض حدّ الإنصهار، فمن الصعب جدا أن تكتشف في أعمالهما المشتركة الحدود الفاصلة بين مهام هذا وذاك، ومن الصعب أن تعزل أسلوب هذا عن ذاك، فكل عمل ينجزانه يظهر مدى توافق لغتهما وأسلوبهما وأفكارهما وثقافتهما… كان آخر عمل مشترك جمعهما ببعض كمخرجَين هو فيلم “بوكاتشيو العجيب” 2015 المقتبس من المجموعة القصصية ”الديكاميرون” للأديب الإيطالي جيوفاني بوكاتشيو، والتي توصف بالكوميديا البشرية.
رحل فيتوريو سنة 2018، وبقي شقيقه باولو فلم يحبط ولم يستسلم بل تابع مشواره السينمائي، فكان آخر عمل له كما قُلنا “وداعا ليونورا” وهو عبارة عن مرثية لزمن ولى، وقصيدة سينمائية ساخرة حول عبثية الموت، وفيلم إبداعي يستحضر من خلاله روح شقيقه، وتحفة بصرية يكرم بها الأديب والمسرحي الإيطالي لويجي بيرانديلو الحائز على جائزة نوبل للآداب سنة 1934.
بقي باولو تافياني في هذا الفيلم وفيا لأسلوبه السينمائي المرتبط بتجربته السابقة مع أخيه، حيث استطاع أن ينفذ إلى عمق الزمن ويذكرنا بعنفوانهما الإبداعي، والجميل في الموضوع أننا لا نلمس اختلافا في الجوهر فكأن شقيقه فيتوريو مازال حياًّ يشاركه الإخراج. ينقسم العمل إلى جزأين، الجزء الأول يسرد فيه الرحلة الأخيرة للأديب بيرانديلو ويزيح فيه الستار عن مصيره النهائي، حيث نرافق رماده الى مثواه الأخير، والجزء الثاني أراه جزءا مقحما لا علاقة له بالسردية الأولى، وعنصرا مشوشا على ما حققه الجزء الأول من عمق في المعنى الفكري والفلسفي والفني لعبثية الموت، رغم تناوله لنفس التيمة، عدم تكافؤ المعالجة بين الجزأين جعل ميزانهما الإبداعي يختل لصالح الجزء الأول، فظهر وكأنه أقحم عنوة، ولم أجد حقيقة أي مبرر لهذا الإقحام سوى تكريم ليس في محله للويجي بيرانديلو من خلال اقتباس قصته ”المسمار” وهو نفس العنوان الذي استخدمه باولو تافياني في هذا الجزء القريب من فيلم قصير معزول لاعلاقة له بالسردية الأولى.
لكن رغم ذلك يبقى الجزء الأول كما قلت فيلما إبداعيا متكامل العناصر، يعبرعن أن زمن تافياني مازال حاضرا ومستمرا معنا إلى اليوم، بل ومازال قادرا على إبهارنا، وجعلنا نستمتع بالسينما الحقيقية الصادقة المنسوجة بحرفية الكبار، يبتدئ الفيلم بلقطات من حفل تسلم لويجي بيرانديلو جائزة نوبل للآداب بحضور ملك السويد سنة 1934، وفي خضم الحفل تعزل الكاميرا بيرانديلو فنسمعه يخاطب نفسه ويقول (حلاوة المجد لا تعوّض المرارة التي تكلفها) بعدها مباشرة يعبر بنا الفيلم إلى سنة 1936 أي بعد الحفل بسنتين، تنقلنا الكاميرا إلى فضاء فارغ إلا من سرير يستلقي فيه رجل عجوز يحتضر- نكتشف من بعد أنه بيرانديلو- وبعض الأدوية فوق منضدة، وأريكتين، وخزانة كتب، وآلة الرقن، هنا نستشف من خلال كيفية ترتيب هذه العناصر في هذه الحجرة المغلقة، أن كل هذا يرمز للعالم المحدود لهذا الأديب الكبير، الذي يدور داخل مساحة ضيقة لا تتحمل سوى ثقل الكتب ومرارة الأدوية، وقد حاول المخرج أن يضعنا بالتفصيل داخل أبعاد هذا الفضاء بتصويره من زاوية علوية ( high angle shot ) تطل عليه من فوق حيث الرؤية البصرية عامة وشاملة. تتميز هذه الحجرة بأضواء مشرقة، وبلون أحادي أبيض ساطع وكأنه يعبر عن النقاء والبراءة، براءة بيرانديلو من كل ما التصق به من تُهم وخطايا مرتبطة بانتمائه للفاشية، يدخل أبناؤه الثلاثة فيتفاجأ بأنه هو من أنجبهم وبأن الحياة انتهت بسرعة، وكلما اقتربوا من سريره كبروا وتغيرت ملامحهم في مشهد سريالي معبر جدا، في ظل هذا الإندهاش الذي أصاب بيرانديلو وهو يودع الحياة، نستحضر عبارته التي ذكرها في البداية أثناء الحفل (حلاوة المجد لا تعوّض المرارة التي تكلفها)، وكأن هذا المشهد التأملي هو مشهد تفسيري يزيح الغبار عن معنى الإنزواء والعزل الذي تعرض له بيرانديلو في الحفل من طرف الكاميرا، ويضعنا داخل المشاعر المتضاربة للشخصية وهي تتأرجح بين سعادة المجد والنجاح، ومرارة التضحية والتكلفة.
وكما تعودنا في الكثير من أفلام الأخوين تافياني، فقد وُظفت في هذا الفيلم أيضا وثائق بصرية حقيقية، كمشهد حفل نوبل مثلا، كما أقحمت داخل بعض المشاهد مقاطع من أفلام أخرى كلاسيكية كأفلام روبرتو روسيليني، ومايكل أنجلو أنتونيوني، وفاليريو زورليني وغيرهم ، مما خلق عملا فسيفسائيا متنوعا يستحضر تاريخ السينما الإيطالية بحنينها تارة، ويمزج بين التسجيلي والتخيلي تارة أخرى، لكن في حلة فنية وتقنية مدروسة لم تؤثر على بنائه الدرامي، ولا سلاسة سرده .
بعد لحظة الإعلان عن وفاة بيرانديلو، وجدنا أنفسنا كمُشاهدين وجها لوجها أمام موسوليني يجتمع بمساعديه، رغبة منه في استثمار هذه الوفاة لصالحه ولصالح نظامه، لكنه يفاجَأ وفي مشهد له دلالته يجلس فيه إلى مكتبه في غرفة معتمة سوداء، بالكاد نتبين فيها ملامحه، بأن بيرانديلو ترك وصية يوصي فيها بدفنه في صمت وفي تقشف تام دون مراسم، أو تحرق جثته وينثر رماده كله، وإن تعذر كل هذا تدفن جرة رماده في صقلية، وهنا ينفعل موسوليني ويمتعض من انتهاء كل آماله في استغلال جثة بيرانديلو، ويتجه الى النافذة ويكتب على زجاجها ”أبله” في إشارة منه للكاتب، هذا المشهد وكيفية تصويره وتوظيفه لمكتب موسوليني المظلم، يتضاد مع المشهد السابق حيث فضاء بيرانديلو الأبيض المشرق، وفي قراءة سيميائية سريعة ومختصرة لهما نجد أن المخرج اختار مبدأ التقابل في هذين المشهدين، ببنائهما بناءً تقابليا جماليّا محكما، يتلاعب فيه بالإضاءة وأبعاد المكان وتفاصيله، لإبراز عالمين متناقضين يتشاركان نفس الزمن ونفس المجتمع، وبالتالي نجده في مشهد موسوليني قد استخدم الإضاءة الخافتة وغلب الظلمة، كازدراء منه واحتقار للفاشية بكآبتها، وديكتاتوريتها، وتسلطها، وقد استحضر هنا عرابها موسوليني شخصيا كرمز لها ولكل الفترة التي ساد فيها حكمه ونظامه، بينما في مشهد بيرانديلو نجده يكرمه ويحتفي بعالمه، رغم مرضه وشيخوخته ووهنه واحتضاره، باستخدام اللون الأبيض والإضاءة الساطعة.
في الأخير تحرق جثة بيرانديلو، وتوضع جرة رماده مؤقتا داخل جدار في مقبرة (فيرانو) بروما، حيث حالت ظروف الحرب من نقلها إلى صقلية، بعد عشر سنوات، تبعث البلدية مندوبها لتحرير الجرة وتنفيذ الوصية، ومن هنا يبتدئ الفيلم فعليا، فكل ما سبق من مشاهد كانت مقدمة جرد فيه المخرج الحالة المزرية التي عاشتها إيطاليا قبل الحرب وبعدها.
باولو تافياني في فيلمه هذا كثف من مشاهد السخرية، ووظفها كعنصر عبثي في تعزيز رؤيته التأملية نحو الموت أو بالأحرى الوداع، فكأنه يرثي ذاته، أو يودع مسيرته الفنية بعد هذا العمر الطويل، أو يودع شقيقه ويستحضره، أو يكرم بيرانديلو، أو كل هذه العناصر مجتمعة في قالب واحد، ومهما كان المغزى من هذه السردية، فعلينا الإعتراف بذكاء المخرج في توظيف جرة رماد، وجعلها الشخصية المحورية التي تدور في فلكها باقي الشخصيات والأحداث، فجرة الرماد هذه تتعرض للكثير من المواقف التي بنيت بلغة سينمائية متقنة ذات معنى، ومبنى جماليّ يساير ماتعودنا عليه لدى تافياني، فمع أول مشهد من محاولة استعادة الجرة من طرف مندوب البلدية، نقف على اللامبالاة التي عوملت بها رغم أنها تحتوي على رماد شخص ميت، وللموت حرمته وللميت قدسيته، والأكثر من هذا فالميت هنا ليس أيا كان فهو شخصية أدبية مرموقة حصلت على جائزة نوبل، ورغم ذلك نشاهد كيف حطم العامل الجدار الذي دفنت خلفه الجرة بعنف، غير مهتم بإمكانية كسرها هي أيضا رغم التحذير الذي تلقاه من طرف المندوب، ثم بعد ذلك نتابع الرحلة بوضع الجرة داخل صندوق خشبي لم يكتب له التنقل عبر الطائرة لامتناع ركابها السفر بمعيته، وامتناع قائدها عن التحليق خوفا، وتشاؤما من رماد الميت الذي بداخله، ليضطر بعدها المندوب إلى متابعة الرحلة بالقطار الممتلئ عن آخره بركاب من كل الفئات والطبقات، وكأنه مجتمع إيطالي مصغر، وهنا نقف على مشاهد ومواقف وأحداث مختلفة تظهر لنا الحياة الإيطالية على حقيقتها بعد الحرب، يضيع الصندوق ويُسترد، يصل أخيرا إلى صقلية فيمتنع الأسقف عن مباركته كونه مجرد رماد في جرة إغريقية، وبعد الإهتداء إلى الحل، يصطدم بمشكلة أخرى وهي عدم وجود نعش كبير للبالغين، بسبب كثرة الوفيات التي سببتها الكوليرا أنذاك، فيضطرون إلى وضعه في نعش للأطفال، أثناء الجنازة يتعرض النعش للسخرية والتهكم من طرف بعض المشيعين الذين اعتقدوا أنها جنازة قزم… لم تتوقف السخرية السوداء عند هذا الحدّ، بل استمرت حتى نهاية الفيلم حيث وجد النحات صعوبة في نحت النصب التذكاري في ريف صقلية، مسقط رأس بيرانديلو، فدام الأمر 15 سنة أخرى، وعندما حان الوقت وحاولوا أخيرا نقل الرماد من الجرة الإغريقية الى آنية حديدية مناسبة للدفن في الصخور الخشنة، اندلق الرماد فوق أوراق جريدة، فلم يهتم به المسؤولان عن تحضيره، ليتركاه خلفهما مبعثرا وينصرفا، بخلاف المسؤول الثالث الذي جمعه، وخبأه في جيبه وحمله معه الى البحر ونثره هناك، وهنا يكتسي الأبيض والأسود الذي رافقنا من بداية الفيلم الى نهايته ألوانا مبهجة معبرة عن نهاية رحلة دامت سنين وعن تنفيذ الوصية أخيرا، وكذا حصول جزء من رماد بيرانديلو على حريته في الهواء الطلق.
فيلم “وداعا ليونورا” ليس فيلما مقتبسا من القصة القصيرة لبيرانديلو والتي تحمل العنوان نفسه كما سيعتقد البعض، بل لا علاقة له تماما بأحداثها، فحدث القصة يدور حول امرأة تموت أثناء الغناء، وتقاطع هذا العنوان مع شخصية صاحبه التي يحوم حولها الفيلم لم يختر اعتباطا بطبيعة الحال، فالعنوان يحيلك إلى صاحبه الأصلي لويجي بيرانديلو، واستحضاره هو استحضارٌ لشخصية الكاتب الحقيقية وليس للقصة نفسها، وكلمة الوداع في العنوان هي الأنشودة التي تغنى بها الفيلم من بدايته إلى نهايته، وعبَّر من خلالها عن رمزية الرحيل.
اعتدنا في تجربة الأخوين تافياني السينمائية على اعتمادها في الأغلب على ممثلين غير محترفين، ونفس الأسلوب واظب عليه باولو تافياني، حتى بعد رحيل شقيقه فيتوريو، وهذا ما لمسناه في فيلمه الأخير هذا، فالمخرج هو البطل، ورؤيته وكيفية معالجتها هي النواة المفجرة لكل الأحداث والمواقف، أما الشخوص فهي مجرد خيالات وظلال تعزز المشهد ولا تخلق الحدث. أما الموسيقى التصويرية فقد لعبت دورا رئيسيا في تشريح الرؤية الفيلمية، وساعدت بشكل بليغ على زيادة جرعات الشاعرية البصرية التي أتحفنا بها هذا العمل، كما أضفت عليه لحظات ساحرة استثنائية أعادتنا إلى زمن غير هذا الزمن، وهذا ليس بغريب وغير مثير للدهشة لأن مايسترو هذه التحفة هو الموسيقار صاحب الأوسكار وصاحب المسيرة الإبداعية الحافلة نيكولا بيوفاني.
ختاما بقي المخرج باولو حتى وفاته، وريثا شرعيا لتجربة الأخوين تافياني، بل وريثا لمدرسة غاب معظم أساتذتها وآبائها وتلاميذتها، فرغم التطور الرهيب الذي عرفته الصناعة السينمائية، إلا أنه بقي وفياًّ لأسلوبه التقليدي في صناعة الأفلام حتى آخر عمل له، ورغم ذلك حقق إقبالا جماهريا محترما، واحتفاء نقديا وازنا، فقلما نجد اليوم أسماء تدغدغ عواطف الجمهور وتثير نزعة الحنين لديه لكلاسيكيات الزمن الجميل، وهذا الفيلم هو دليل على تشبث باولو تافياني بماضيه حتى آخر نفس، واحتفائه بمسيرته، بعيدا عن تفاهة المضمون، وزيف الصورة، اللذان ابتليت بهما السينما حاليا.