هي سيدة بدوية في عقدها الثالث ، هاجرت الى المدينة الصناعية الكبيرة بعيدا عن القرية، بحثا عن العمل في مزارع منتجة للطماطم، العنب.. والمتواجدة في الضواحي .
هجرة تشبتت بها رغم اعتراض زوجها ، وأمها التي نصحتها بعدم الابتعاد عنه ، حتى لا يفكر يوما ما ، نتيجة هذا الابتعاد ، في البحث عن نساء أخريات لإشباع نزواته . لكن عالية لم تعر أي اهتمام لما وسوسته لها أمها من تهيؤات تخفي هواجسها التي تحركها مخاوفها الكبيرة ، لان دافعها الحقيقي إلى الهجرة كان أهم بكثير من كل ذلك :
إنها تطمح إلى أن يتابع أطفالها تعليمهم/ن في المدارس ، خصوصا بعد أن قرر أخوها البكر فصل ابنته عن التمدرس بحجة أنها أصبحت تمتلك جسدا يثير شهوات الطامعين ، وهذا ما لايمكن أن يسمح به ، على أمل تزويجها وحمايتها من كل غواية .
العالية بحنكة أم مدبرة ، تخشى أن يكون مصير أبنائها مشابها لمصيرها ، هي التي تم تزويجها في سن السادسة عشر من عمرها ، وكذلك أختها التي تم إيقاف مسارها الدراسي بنفس الحجة ، ولنفس المصير .
عالية الحاذقة، قررت أن تعيل بناءها كي توفر لهم حاجياتهم الضرورية ، بالاستعانة بما كان يرسله الاب بين الفينة والاخرى من أكياس قمح وذرة ، أو بعض المال إذا توفر له بعد معاملاته التجارية التي يقوم كبائع للبهائم .
كانت عالية حاقدة كثيرا على وضعيتها هاته ، فرغم أن أمها قد اقتنت لها في حي قصديري “براكة” إلا أنها كانت لا تغفر لها كونها قد حرمتها وأختها من ميراثهما في الارض، التي ورثاها عن والدهما ، الذي كان قد حارب في صفوف الجيش الفرنسي ، لكنه لم يكن يملك ما به يؤكد خدماته تلك ، مما حرمه من معاش مريح نسبيا .
أمها منحت أبناءها الذكور الحق في زراعة الأرض وجني ثمارها ، لأنها تعتبر أن بناتها سوف يجعلن أزواجهن مستفيدين من هذه الخيرات ، فكان أن قررت تقديم بعض الدعم المالي لهما دون غيره .
تحتج عالية على هذا الظلم الذي لحقها ، خصوصا وهي في حاجة ماسة للمال ، فابنتها البكر على أبواب السنة النهائية من التعليم الثانوي ، وأختها أيضا تستعد للالتحاق بهذا السلك ، وسنهما الذي يخبر عن دخولهما مرحلة المراهقة التي تخيف الأم ، خصوصا فتاتها الصغرى غير الناضجة ، والتي تطالب بامتلاك هاتف نقال كزميلاتها ..
حديث الأم عن مرحلة المراهقة ومتاهاتها ، تعلم عنه الأم الشيء الكثير ، هي التي تتابع بعض البرامج التليفزيونية وتحمد ربها أنها ليست جاهلة بكثير من الامور .
عالية ، تفتخر كونها امرأة حادقة ، وتردد كثيرا قولها :
أنا ذكية كأبي ، أعرف جيدا ما يجب فعله ، حتى لو اعترض علي أهلي ، ونصحوني بالرجوع الى البادية ومدي بمقدار من المال شهريا ، في مقابل خدمة حماتي واخ زوجي وزوجي ، أرفض ذلك جملة وتفصيلا ، لان هذا يدخل في حكم اللامعقول .
كانت تريد أن تنتقل إلى عالم النساء المتحضرات ، وخصوصا اللواتي حققن استقلالهن المادي بعيدا عن سلطة رجل ، حتى أنها كانت تردد جملتها الأثيرة :
أنا اكره الرجال الذين لا يتحملون مسؤولياتهم أزاء أسرهم ، فما حاجة المرأة لرجل كهؤلاء .
الرجل كان وفق معيارها يجب ن يكون كأبيها الذي لم يبخل على أبنائه وزوجته بأي شيئ ، كان حنونا وطيبا ، وفي الأماسي يسرد حكاياته وبطولاته في الجيش الفرنسي ، مرددا كلمات بلغة فرنسية لا يفقهون فيها شيئا ، لكنه ، هو تميز عنهم بذلك ، مما يثير غيرة زوجته التي تعلق على ذلك بأنه فقط يتظاهر بمعرفة هذه اللغة ، فهو لم يلج مدرسة يوما ما.
ومع ذلك تفخر العالية بأبيها و “ذكائه “الذي تصر على أنها ورثته عنه ، وهي تقصد قدرته على التعامل بشكل إيجابي وعقلاني مع مجريات الحياة .
كانت تتطلع إلى أن تصبح امرأة أخرى ، في هيأة مناضلة حقوقية ترافع من أجل النساء اللواتي يتعرضن ” للحكرة ” ، والاستغلال في الحقول أثناء جمع المحاصيل ، أو النساء اللواتي يعملن ليستفيد الزوج من هذا الجهد العضلي ، ويصرفه على نزواته الخاصة ، خصوصا المخدرات ، أو الكحول .
هي تعرف نساء كثيرات يجاورنها ، يعشن هذه الوضعية ، بل غنها تحكي عن جارة لها ، وهي أم لخمسة أطفال ، يعانون من الجوع في معظم الاحيان ، ومن الوسخ الذي جعل القمل يتخد رؤوسهم /ن مستقرا دائما ، لانها لا تمتلك المال الكافي للذهاب إلى الحمام قصد التخلص من هذه الأدران ، أكثر من هذا ، فهي لا تملك جل المواعين التي يمكن أن تستعملها للطبخ وغيره ، تستعيرها باستمرار من جاراتها اللواتي يتفهن وضعها ، فيقبلن إعارتها ما تحتاجه .
عالية تشكو وهي تسكن حيا صفيحيا من القذارة ، ومن غياب مرافق صحية في ” البراكة ” ، فرغم كل جهودها المبذولة في التنظيف ، تظل الروائح الكريهة تنبعث من كل جانب ، وهي تحكي كل هذا تتذكر البادية وجمال طبيعتها وصفاء جوها الذي افتقدته اليوم بشكل كبير .
كانت تود لو أن الدولة هيأت لها ولأبنائها وأمثالهم ، كل ما يحتاجون إليه من مدارس ومرافق عمومية تلبي كل حاجاتهم ، دون أن يضطروا إلى مغادرة مسقط رأسهم الذين يحيون فيه بشكل أحسن ، وسط عائلتهم الكبيرة ، بدل الفقر الذي أصبح جزءا ملازما لحياتهم ، وكذلك عدم الشعور بالامان ، فقد يحدث أحيانا أن تتعالى أصوات شباب وقعوا تحت تأثير التخدير القوي ، يتناوشون فيما بينهم وهم يحملون أسلحة بيضاء من حجم كبير ، فكانوا بذلك يحركون خوف أم على أبنائها وخصوصا على بناتها ، من هجمة أحدهم غير المنتظرة .
كل شيء محتمل مع شباب ضاعت منهم فرصة انذماج في المجتمع ، فأصبحوا بانحرافهم مصدر خوف ساكنة لا حول لها ولاقوة .
كلها هواجس ومخاوف تحملها معها العالية ، إلى عملها في بعض البيوت التي تعمل فيها ، بعد أن رفضت العمل في الحقول التي تعرضت فيها غير ما مرة للتحرش ، وهذا ما لم تقبله .
عالية تمني نفسها بغد أفضل ستحققه لها بناتها اللواتي بعد انتهاء تعليمهن العالي ، سيلتحقن بعالم الشغل ، وسيحققن ربحا ماديا يسمح لهم /ن جميعا ، بأن يحظوا بفرصة جديدة في الحياة .
عالية تغادر الشغل لانها توصلت بخبر من أختها في البادية ، بأن أخاها الاكبر ينوي الاستيلاء على قطعة أرضية في ملكيتها ، مقابل عرض غير سخي ، بحجة إعانتها على صروف الزمن ، غادرت وهي تنوي أن تواجه جبروته بكل ما تحمله من حذق، وحقد على وضعية لم تكن لها حرية في اختيارها يوما ما .