تحديد مفهوم الحضارة يحيلنا في الغالب على مظاهر التقدم التي أنجزها الإنسان منذ أكثر من ستة آلاف سنة ، في ظل شروط موضوعية تعددت العوامل الفاعلة فيها .
وبدخول الانسان مرحلة الحضارة، حيث ظهور الزراعة والتجارة وحصول فائض من الغداء ، مع تحقيق الاستقرار الاقتصادي ، وفيما بعد ظهور مهن وحرف كمظهر لازدهار منطقة ما . يكون الإنسان بذلك قد تجاوز غيره من الكائنات الأخرى غير العاقلة .
فبامتلاكه وحده القدرة على التفكير، استطاع أن يبني الى جانب عالم الطبيعة المادي المحض ، عالما آخر. إنه العالم الثقافي الحضاري، الذي انبثق وتطور عبر سيرورة معقدة
في تفاعل تام مع ما يجري من حول الانسان، وهو بصدد تحويل العالم الخارجي عبر الشغل بقصدية السيطرة عليه، لصالح إشباع حاجاته، وبعدها إشباع رغباته ، محققا من خلال كل هذا وعيه بذاته. وهو الكائن الذي تحكمه النوازع الغريزية ( الحيوانية )، يكون باختراعه عالم الحضارة ، يفترض أنه قد ابتعد بوجوده كإنسان، من وجود يهيمن عليه التوحش، والعنف…. واعتماد القوة من أجل تحصين البقاء، إلى وجود يخلو من ما يشي بحضور الجانب البهيمي الخالي من كل تعقل ، والخاضع فقط للضرورة: الانتقال من الحيوانية التي يحكمها الغريزي واستخدام القوة الجسدية لتحصين البقاء، إلى الحضارة ، أي الى مرحلة توظيف ما ميزه عن كائن غير عاقل ، يدفعنا إلى أن نتساءل بخصوص هذه الطفرة التي عرفها الانسان ، على ضوء على ماعاشه من حروب وإبادات …. أي كل العنف الذي صدر عنه، ومر منه عبر كل الحضارات :
هل مشروع الانسان الحضاري مشروع فاشل ؟
ألا يحق لنا ان نعلن موت الحضارة الإنسانية ؟
يصعب كثيرا ان ننفي هذه القضية ، حتى وان كان من سيحاجج على ضدها ، بأن الانسان عرف تطورا ، وتقدما لا نظير لهما على كافة المستويات ، أليس هو من سكن الكهوف والآن هو ساكن الناطحات ؟
أليس هو من هزم الجهل بالطبيعة ، حين ادرك العلاقات الثابثة بين ظواهرها ، أو حتى في نسبيتها، ليصول في الفضاء وما تحته ؟
أليس هو مبدع كل الفنون بمختلف ألوانها، الآداب، المسرح ، السينما، الموسيقى ، والشعر ، الفلسفة ، العلم ….؟ مبدع القوانين ، واضع التعاقدات ،
أليس هو مخترع الديموقراطية ، المنقلب على الديكتاتورية ، الطوباوي، الفوضي ، السلفي، التقدمي ، المتنور ، الظلامي …
أليس هو كل هذا ؟
أليس هو مكتشف القارات ومستعبدها ؟
أليس هو من توصل الى ميثاق عالمي يضمن للانسان حقوقه كلها ؟ أجل ، إنه الكائن الذي لم يفلح رغم كل هذا ، في أن ينتقل إلى أن يكون شخصا ، ذا رادة تحد من جوعه الغريزي للعنف ، وأن يكف بذلك من أن يمارس الشطط في استعمال كل طاقاته وذكائه الطبيعي والصناعي لتخريب ما أبدعه العقل السليم . كذلك لم يفلح أن يسمو بنفسه إلى عوالم الجمال التي تكمن في أعماقه ، إذ كان عليه فقط ان يتيح لنفسه فرصة التأمل العقلاني ، كي يضع يده على الحقيقة التالية :
الانسان يستحق أن يحيا في عالم خال من القبح ،مادام قد منح فرصة الوجود فيه .
تأمل كان سيجعله يدرك أنه أمات في اعماقه انسانيته ،وعمق جذور القلق على مصيره على هذا الكوكب الذي لم ينجح أيضا في الحفاظ على عذريته ، مثلما فشل في تحقيق توازن ، وأمن ، وسلام ، وحوار بين الجميع ، بعيدا عن الصراعات في العالم الذي سار نحو الضياع، بعد إفلاس الانسان في إثبات دخوله الفعلي ، والناجع إلى عالم التحضر ،
وبهذا يكون قد أعلن بغير تدبر Hو ترو، موت الحضارة التي تغنى كثيرا بانتمائه اليها .