كتب: أيمن سلام ـ
“لقد علمتني الحياة أن أنتظر، أن أعي لعبة الزمن من دون أن أتنازل عن عمق ما استحصَدْته: قل كلمتك قبل أن تموت، فإنها ستعرف حتماً طريقها. لا يهم ما ستؤول إليه، الأهم هو أن تشعل عاطفة أو حزناً أو نزوة غافية… أن تشعل لهيباً في المناطق اليباب الموات. فيا أيها الليليون والنهاريون، أيها المتشائمون والمتفائلون، أيها المتمردون، أيها المراهقون، أيها (العقلاء)… لا تنسوا أن (لعبة الزمن) أقوى منا، لعبة مميتة هي، لا يمكن أن نواجهها إلا بأن نعيش الموت السابق لموتنا، لإماتتنا، أن نرقص على حبال المخاطرة نشداناً للحياة. أقول: يُخرج الحي من الميت. يُخرج الحي من النّتِن ومن المتحلل. يُخرج من المُتْخم والمنهار… يُخرجه من بطون الجائعين ومن صُلب المتعيشين على الخبز الحافي».
في أماكن مظلمة ليلا و نهارا، ترعرعت و نضجت شخصية الكاتب و الروائي المغربي محمد شكري. ولد بمنطقة قروية بإقليم الناضور، في منتصف الثلاثينات من القرن العشرين، شاء القدر أن يفتح عينيه في أسرة فقيرة و ظرفية مرهقة ماديا و معنويا. انتقلت أسرة شكري في فترة من فترات الهجرة الريفية نحو مدينة طنجة-كان يبلغ من العمر سبع سنوات- من اجل البحث عن لقمة العيش . هي المدينة التي لم يختر العيش فيها، لكن يرى أنها الأفضل مقارنة بغيرها من ناحية الكتابة، قضى فيها طفولة قاسية، متسكعا في الأسواق و الحواري و الشوارع و الأزقة، هذه الأماكن التي لطالما يغمره الشوق و الحنين إليها، كما صرح في برنامج “نماذج” على القناة الثانية (2001) “أنا أخلق الحنين مع بعض الأزقة و الشوارع ، لذلك أغيب عنها فالمنظر المتكرر لا يلفت النظر .. لا بد أن نجدد الحنين مع الناس و الأماكن”.
صمد الطفل محمد شكري امام الجوع و ناضل مراهقا من أجل أن يعيش. أكل من حاويات القمامة، من مخلفات الاوروبيين، كل يوم بالنسبة للصعلوك صراع ضد الجوع و من اجل الخبز، اشتغل في سن مبكرة بمقهى لصديق والده إلى بائع صحف ثم ماسح أحدية و غيرها من الأعمال التي جعلت شكري قريبا من جميع طبقات المجتمع، من أحقرها إلى أجملها و بينهما يتواجد محمد شكري . كتب أشهر رواياته سنة 1972، عن العشرين سنة الأولى من حياته؛”الخبز الحافي”، و تمثل الجزء الأول من سيرته الذاتية، بالإضافة إلى رواية “الشطار ” أو “زمن الاخطاء ثم رواية “وجوه”، وجوه رسمها لنا و نراها، نشعر بها ونتأثر بواقعها، يكاد يتواجد الشحرور الأبيض داخل الشخصيات و الحيوانات و الأشياء و الأماكن، لتزخر كلماته حسرة و ألما، و ليظيف لنا معنى أن تكون مستعمرا، مشردا،مهمشا، فقيرا، جائعا، متخلفا، مكبوتا. فصل في الرواية بوصف دقيق علاقته بالمحيط، بحاويات القمامة، ممارسة الجنس،و ارتباطه بالمسحوقين مثله كما يصر دائما ،كي يزيل الستار عن وضع يعيشه مجموعة من الناس، لا نراهم و قليلاً ما نشعر بهم. اعتبرت مجموعة من الدول العربية أنه كاتب “بورنوغرافي” لكن استنكر ذلك في حوار له على القناة الثانية الفرنسية (فرانس2) سنة 1980، موضحا انه لا يقوم بتسويق الأدب و لا يتلاعب بمشاعر الناس، طالما حاول أن يقوم بترسيخ بعض القيم في ما يكتبه، و أظاف شكري؛ أنه غير مسؤول عن ما إذا كانت هناك إزدواجية في الفكر العربي. منعت رواية “الخبز الحافي”في مجموعة من الدول العربية، في حين لاقت استحسانا و انتشارا واسعا لدى الجمهور، لا سيما النسخة المترجمة باللغة الإنجليزية من طرف صديقه بول بولز سنة 1973 أي بعد سنة من كتابتها، و ترجمت إلى أزيد من تسعة وثلاثين لغة أجنبية، و لم تنشر باللغة العربية لغتها الأصلية حتى سنة 1982. رواية لعن فيها شكري كل شيء، و تمنى فيها الموت لوالده كارها إياه ، كونه لم يستطع أن يكون أبا و لا زوجا. و كان قرار شكري في عدم السعي إلى الزواج، مبنيا على علاقته بوالده، فلم يكن قادرا على الولادة بفعل الألم الذي من الممكن أن يتسبب فيه لأولاده، هو الذي بالكاد يستطيع أن يثق في نفسه، كما جاء على لسان خادمته لطيفة في تصريح لها على قناة (télé Maroc)، و كذلك لم يكن يضع ثقته في أصدقائه خاصة المغاربة منهم، وثق بعمق في أصدقاء أجانب و أحب الجميع حتى اولئك الذي لعنهم و شمتهم. لم يكن مسؤولا عن ما اكتشف منذ أن شارك أمه الطعام في بطنها، فحينما أرادت الصحافة الفرنسية استفزاز شكري في موضوع والده عن كرهه له في رواية الخبز الحافي، و ما صورته من عنف تعرض له طفلا بريئا يشعر بالبرد و الجوع، و الفقر لديه واقع يعيشه نهارا و ليلا، مع أخيه الملاك و أبويه ؛ تكلم بلغة فرنسية طليقة حول الفهم الصحيح للعلاقة التي قرأوها في الرواية، مؤكدا أن السبب الرئيسي راجع بالأساس للإستعمارين الإسباني و الفرنسي، و أن فرص الشغل كانت شبه منعدمة و هذا ما صرح به شكري في العديد من اللقاءات، مخلفات الأزمة الاقتصادية العالمية سنة 1929 ، الحرب العالمية الثانية، الحرب الأهلية الإسبانية، و الاستعمار، جميعها أزمات كانت سببا في الجوع و الفقر، لم يكن خطأ الأب، و إنه إسقاط على منظومة اجتماعية تشهد نوعا من اللاوعي واللااستقرار.
درس شكري بعد عقدين من الزمن عن ولادته، بالقسم الابتدائي و الثانوي بمدينة العرائش، فكانت بداية ملامسته للكتب ، للفكر، للأدب. قرأ بهوس ليعوض ما فاته، و تطلع للكتابة الرزينة و المعبرة، فحبك نصوص تعكس واقعه، بل أكثر من ذلك فإن كتاباته تعكس واقع مجتمع، فيقول « إن الكتابة ليست نزهة بل مسيرة احتجاج». بدأ شكري الحياة بعد التحاقه بالمدرسة صدفة، درس لأزيد من أربع سنوات تعين بعدها معلما في إحدى المدارس بمدينة طنجة، لم يطول عمله معلما، فقد قرر بعد حصوله على التقاعد النسبي أن يتفرغ للكتابة، ليتحدى كبار الكتاب في العالم كما قال الشاعر و المفكر اللبناني أدونيس، اشتغل مدة قصيرة بالإذاعة الدولية البحر المتوسط (ميدي1) على تقديم و إعداد برنامجه “شكري يتحدث” ما منح له وقتا للقراءة و الكتابة.
ضاعت الأحلام و مات شكري قبل أن يبدأ حياته، لم يكن فكره واضحا، لكنه آمن إيمانا حقيقيا بالفرد، و شارك حياته كبار المفكرين و الكتاب من جميع أنحاء العالم، و ترك لنا الشحرور مذكراته مع “بول بولز” و زوجته “جين بولز”و كذلك مع الكاتب المسرحي و الروائي الفرنسي “جان جنيه” الذي أهداه شكري المذكرات هدية تتضمن علاقتهم و كل ما سمعه و رآه من و عن “جان جنيه” منذ أن إلتقى به لأول مرة، و كان متفاجئا سعيدا بهدية من شخص بحجم محمد شكري، كما نشر محمد برادة رسائلهما في كتاب رمد ورماد، و يظهر حينها أن كل رسالة من شكري لصديقه توضح أنه يعاني و يتالم بفعل المرض، ففي بعض الأحيان كان يراسله من مشفى الأمراض العصبية، معبرا له عن تقدمه في السن و معاناته، و معانقته السجائر دون نظام غدائي صحي. كان شكري يشعر بالدمار داخله، قنبلة القمامة انفجرت، تملك شكري السرطان فتوفي للمرة الثانية سنة 2003 .
مؤلفات محمد شكري :
-الخبز الحافي ؛ سيرة ذاتية (نشرت الترجمة باللغة الإنجليزية سنة 1973، و باللغة الفرنسية سنة 1981، و باللغة العربية لغتها الأصلية سنة1982)
-زمن الأخطاء أو الشطار ؛ سيرة ذاتية (1992)
-وجوه؛ سيرة ذاتية (2000)
-الخيمة؛ مجموعة قصصية مكونة من أربعة عشر قصة (1985)
-مجنون الورد (1979)
-السوق الداخلي (1985 م)
-مسرحية السعادة (1994 م)
-غواية الشحرور الأبيض (1998 م)
بالإضافة إلى مذكراته مع جان جنيه، بول بولز، و تينيسي وليامز.