إن تخصيص موضوع تزويج الطفلات بالبحث والدراسة ليس مجرد انسياق وراء مواضيع تشكل “موضة”
بحثية في اللحظة الراهنة، ولا السعي إلى إثارة الجدل فقط لغاية الجدل، بل أمر أملته أولا مجموعة من
الاعتبارات بحكم أنه عمر لعقود من الزمان(65 سنة)، ترافعت خلالها الجمعيات النسائية والحقوقية من
أجل إلغائه، ولما غدا الاستثناء الذي يسمح بتزويج الطفلات هو القاعدة التي أدت إلى تصاعد أرقام
زيجاتهن، وتفاقم الآثار السلبية المترتبة عنها، شكل ذلك في إطار الاستمرارية جدلا في مختلف الأوساط
النسائية الحقوقية والفكرية والاجتماعية، واصفة الوضع بأنه أصبح مقلقا ، بل وصفت المؤسسات الدستورية
ظاهرة هذا التزويج بأنها أصبحت تشكل أزمة حقيقية، وظاهرة مجتمعية مزعجة، مما أدى إلى المنافحة
و الترافع من أجل إلغاء ذلك الاستثناء وملاءمة مدونة الأسرة مع الاتفاقيات الدولية، أمر أملته ثانيا ضرورة
موضوعية بحكم أن هذا التزويج أصبح يعتبر عنفا مبنيا على النوع الاجتماعي، بداية من الفكرة وحتى التنفيذ؛ بل رقاً معاصرا، وفعلا للاتجار بالبشر، أمر أملته ثالثا الإشكالية المركزية التي يطرحها والتي بقيت
من أكثر الإشكاليات إثارة للجدل، وما تمخض عنها من إشكاليات فرعية خلال العقدين تقريبا من تطبيق
مدونة الأسرة و التي جددت الجدل حولها، وقوت من طرحها، وزادت من تعميقها وتعقيدها، ولذلك فالموضوع
مازال يحتفظ براهنيته.
حتم تفجير الإشكالية المركزية، وما تفرع عنها من إشكاليات فرعية معالجتها في أبواب أربعة أفردت كل
واحدة منها لموضوع معين من المواضيع التي يشير إليها عنوان الكتاب: خصصت الأولى منها لحكم الزواج
في الفقه الإسلامي ومدونة الأسرة والاتفاقيات الدولية، وركزت الثانية على تزويج الطفلات كعنف قانوني
مبني على النوع الاجتماعي، بينما تناولت الثالثة منها هذا التزويج كشكل من أشكال الرق المعاصر وكفعل
للاتجار بالبشر، وتطرقت الرابعة والأخيرة لموضوع تزويج الطفلات بين الاستثناء والوفاء بالملزم والملتزم به
لتكتمل بذلك المواضيع الواردة بعنوان الكتاب.
وبما أن معالجة الإشكالية المطروحة تروم إلى تحقيق قراءة مستوعبة لمجموعة من الأهداف، فإن ذلك
تطلب بداية، وقبل خوض غمار مختلف مواضيعها في كل باب من أبواب هذا الكتاب، افتتاح كل واحدة
منها، والتقديم لها بمدخل تأطيري أو بإطار مفاهيمي، يركز على تدقيق وتحديد وتوضيح المصطلحات
والمفاهيم أو المفهومات المعتمدة فيها، فذلك عد أولا خطوة لا مندو حة عنها لفهم الإشكالية المطروحة وثانيا
لأن ذلك يكتسب أهمية كبرى كحلقة أساسية في مجال البحث العلمي، بل يعتبر مفتاح العلوم، لأنه عند
ضبطها تمسي الأداة المساعدة التي بواسطتها نتمكن من استقبال وهضم المعلومات والمعارف بيسر.
اقتضي بناء على ذلك، قبل معالجة أي موضوع التقديم له بضبط مفاهيم المصطلحات الأساسية التي
تم الاعتماد عليها في معالجة إشكاليته الرئيسية، والإشكاليات الفرعية المرتبط بها، لأن هناك منها من
عرفت ومازالت تعرف اضطرابا وتشويها في الاستعمال، ومنها غير الدقيقة، ومنها ما شاع استعمالها عوض
أخرى، ومنها ما يتعين رفع اللبس المقصود بينها وبين مصطلحات أخرى، لأن هناك التباس مقصود بذاته
بين البعض منها وخلط بين بعضها الآخر، ومنها ما يكتنف مفهومها ضبابية واختالطه بغيره من المفاهيم،
واستعماله دون عناء توضيح المقصود منه، ومنها الجديدة التي لم تعتمد بعد، وهناك بعض المفاهيم الزئبقية
التي تخلق توترا ذهنيا في استيعاب مدلولها وحمولتها.
ولهذا فاستعمال المشرع وفئة كبيرة من الباحثين، لمجموعة من المصطلحات لا يمنع من ضبط مفهومها
وتوجيه النقد المبني على أسس علمية للمشرع من أجل حثه على تغييرهما مستقبلا، واعتماد مفاهيم علمية
دقيقة وجديدة، لأنها في حاجة دائمة إلى المراجعة وإعادة التحديد، نظرا للتحولات التي تطرأ على الفكر
الإنساني والحقوقي.
وبناء عليه خصص الفصل الأول من كل باب للإطار المفاهيمي من أجل بيان وتوضيح مفهوم
المصطلحات المعتمدة، أو التي انطلاقا منها يعالج موضوعها، حيث تم التركيز على مفهوم أكثر من مائة
مصطلح لغة واصطلاحا وممارسة وحقوقيا مثل ” النكاح”، الزواج، التزويج، الصغير، القاصر، المبكر الطفل،
الفتاة، المرأة، الإكراه ، القسر، الجبر، العنف وخاصة العنف الجنساني والجنساني الممأسس ضد الطفلات،
عنف المشرع، الرق المعاصر، الاتجار بالبشر، الاستغلال الجنسي، الاحتيال أو الخداع الاستثناء الثقافي ،
الممارسة الاتفاقية، إلى غير ذلك من المصطلحات.
عالج الفصل الثاني حكم نكاح الصغار في الفقه الإسلامي بتفصيل وليس بالاقتصار على اختلاف الفقهاء
حيث تم بيان موقف مختلف المذاهب مشفوعا بأدلتهم حول جواز هذا النكاح أو عدم جوازه.
وعالج الفصل الثالث حكم الزواج في مدونة الأسرة بدأ بعقد زواج الراشدين أي الزواج بالتراضي التام، وبعد
ذلك حكم زواج الفتى والفتاة أو التزويج بالموافقة الموزعة الذي هو تزويج ضد الإرادة.
وتعرض الفصل الرابع لنسب زيجات الأطفال والآثار المترتبة عنها التنموية والصحية، وما عرفته أرقامها
من تصاعد خلال العشر سنوات من تطبيق المدونة ، وما عرفته من انخفاض وتصاعد بعد ذلك إلى حدود
السنة الحالية. تم بعد ذلك التطرق لمدونة الأسرة والمؤسسات الساهرة على إنفاذها التي كانت ومازالت محط
نقاش وتجاذب، وتوضيح المسؤول عن تزويج الأطفال وارتفاع نسبه، وللإشكال الذي يطرحه.
وفي الفصل الخامس تم جرد مجهودات رئاسة النيابة العامة في الحد من ظاهرة تزويج الأطفال من خلال المناشيروالدوريات، و للدراسة التشخيصية القضائية و الميدانية حول زواج القاصر الصادرة عنها
وتم التعرض في الفصل السادس والأخير من هذا الباب لحكم الزواج في الاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق
الإنسان التي تنص على أن الحق في عقد الزواج بموافقة حرة وتامة بدون إكراه وقسر وإرغام من حقوق
الإنسان، وأن الزواج دون ذلك يعتبر انتهاكا صريحا لها.
وخصص الباب الثاني لتزويج الطفلات كعنف قانوني و ممأسس مبني على النوع الاجتماعي في الاتفاقيات
الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان والقانون الوطني، بينما خصص الباب الثالث لتزويج الطفلات كشكل من
أشكال الرق المعاصر وفعلا للاتجار بالبشر، حيث تم بيان كيفية اعتباره كذلك في الاتفاقيات الدولية
المتخصصة، وفي تقارير الهيئات الأممية والمقررين الخاصين.
أما الباب الرابع والأخير فناقش موضوع تزويج الطفلات بين الاستثناء و الوفاء بالملزم والملتزم به ، حيث
تم التعرض أولا للنقاش المجتمعي حول هذه الظاهرة بين الاستثناء المباح والاستثناء المقيد و المنع لمواجهة
عناد الواقع، ثانيا للملزم والملتزم به بين االاستثناء والثنائيات الحاصرة، مثل التغيير والاستثناء، و القانون
والواقع و الممارسة الاتفاقية والمفارقة والازدواجية القانونية. ثالثا وأخيرا للملزم والملتزم به على الصعيد الوطني
و على الصعيد الدولي .
لماذا اعتبر وما زال يعتبر هذا التزويج عنفا ورقا واتجارا بالبشر؟ الغير المطلع والمتتبع والمواكب لما
يصدر وطنيا ودوليا سيذهب إلى أن ذلك حكم قيمي، ولكن الباحث المطلع والمتتبع والمواكب لن يذهب إلى
ذلك الحكم، لأن البحث الأكاديمي أولا بيّن بأن الاستثناء الذي تنص عليه مدونة الأسرة لا يتعلق بزواج
وإنما بتزويج، وليس للقاصر وإنما للطفل بناء على الاتفاقيات الدولية التي التزمت بها الدولة.
ثانيا: لأن الجسر ممتد بين البحث الأكاديمي المنافح والمؤثر فيما يصدر من بيانات وإعلانات وتقارير
عن الجمعيات النسائية و الحقوقية والمؤسسات الدستورية، ، لذلك فهي استعملت نفس المصطلحات وذهبت
إلى نفس الاتجاه.
ثالثا: لأن الصكوك والاتفاقيات الدولية والقرار 2000/44 للجنة حقوق الإنسان، أجمعت على وجوب توفر
ركن الرضا الحر والتام عند قيام العلاقة الزوجية، وألزمت الدول بتأمين ذلك في تشريعاتها، وبالإلغاء التام
لزيجات الأطفال، كما اعتبرت تزويج الأطفال ممارسة ضارة وانتهاك لحقوق الإنسان، بل اعتبرت كل
الممارسات القانونية بما فيها تلك التي ترتكبها الدولة فعلا عنيفا قائما على أساس نوع الجنس وشكلا من
أشكال التمييز، وشددت على واجب الحكومات بأن تمتنع عن ممارسة هذا العنف.
رابعا: لأن الباحث عليه أن يبني على ما توصل إليه، فإنه بناءً على ما سبق، وعلى إعلان القضاء على
العنف ضد المرأة، وعلى توصيات لجنة السيداو وعلى .. ذهبنا إلى أن هذا العنف متى كان منظما بمقتضى
القانون فإنه يصبح مشروعا، ومشرعنا، ومباحا ومستباحا باسمه ضد الطفلة، وهذا هو عنف القانون أو
العنف المنظم والمشرعن باسمه؛ هو الذي يمارسه المشرع ضد الطفلات، أو هو كل ما يشرعن التمييز/العنف
المقنن باسم القانون على أساس الجنس.
خامسا: بما أن أساس تزويج الطفلة يكمن في السلطة التي يملكها رئيس الأسرة بحكم العادات والتقاليد
والأعراف، بل والتي يخولها له القانون تجسيدا وترسيخا لها، فإن فريق الأمم المتحدة العامل المعني بأشكال
الرق المعاصرة، وتقرير المقررة الخاصة المعنية بأشكال الرق المعاصرة، اعتبرا الزواج بممارسة السلطة،
ومن دون أن يعبر الطفل فيه عن إرادته وموافقته الحرة والكاملة، من ضمن صور العبودية والاسترقاق ،
وشكل من أشكال الرق المعاصر، زيادة على الأعراف والممارسات التي تبيح وضع شخص تحت تصرف
شخص آخر؛ كما أن التمييز الجنساني، والأبعاد الجنسانية والاستغلال الجنسي وليس الاعتداء الجنسي ،
واستغلال حالة الضعف والتعسف في استعمال السلطة جعله يعتبر فعلا للاتجار بالبشر، وشكلا من أشكال
الاستغلال الجنسي، لما يمثله من استرقاق، ومن استغلال للطفلات، ومن انتهاك لحقهن الأساسي في
التعبير عن إرادتهن بحرية وباستقلال كامل. لهذا ولغيره كثيرا اعتبر وما زال يعتبر تزويج الطفلات عنفا
ورقا واتجارا بالبشر.
يتطرق الكتاب بأسلوب سلس لمجموعة من القوانين، وإلى مجموعة من العلوم: الاجتماع الإحصاء والطب،
ويقف عند كل مصطلح، ويحيل على معظم مراجع الباحثين خاصة الحديثة منها، وعلى التقارير الصادرة
عن الوزارات المعنية، وعن المؤسسات الدستورية، والتقارير الوطنية المقدمة للجن االإتفاقيات الدولية،
و للاستعراض الدوري الشامل أمام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وعلى تقارير الجمعيات
النسائية والحقوقية، وعلى الاتفاقيات الدولية وبروتوكولاتها وما صدر عن لجنها من توصيات عامة وخاصة،
وعلى كل مقترحات القوانين المتعلقة بالموضوع ، ولا يخلو الكتاب من النقد العلمي والموضوعي للمشرع سواء
من حيث المصطلحات التي استعملها، وتذبذبه بين مجموعة منها) الخطبة والخطوبة، الزوجين والمتعاقدين،
الولي والنائب الشرعي( وتذبذبه بين القانون والواقع، التغيير والاستثناء الملاءمة واللاملائمة، وازدواجية
تعامله مع حقوق الإنسان بالأخذ ببعضها دون البعض الآخر، بينما هي مترابطة وشاملة ومتداخلة ومتكاملة
وذات مكانة متساوية، غير قابلة لا للتجزئة، ولا للتصرف، ولا للفصل، ولا للمفاضلة، ولا للمقايضة و لا الاستثناء
ولاالشروط.
* ملاحظة: الكتاب يقع في 572 صفحة، المقاس ،24/17 الناشر مكتبة أميمة جنب كلية الحقوق مراكش