استفاق العالم يوم 7 أكتوبر 2023 على مشهد هروب جماعي لمستوطنين إسرائيليين ومغادرتهم لمستوطنات واقعة بغلاف غزة، فيما سمي طوفان الأقصى. كان مشهدا مثيرا مدهشا وغريبا. فقد اعتاد العالم مشاهدة المواجهات والاعتقالات وعمليات القنص والتعذيب التي يمارسها الجيش الإسرائيلي على الأطفال والنساء والشباب الفلسطينيين وعموم سكان غزة الواقعين تحت الحصار والاقتحامات، وعلى منظر الاشتباكات اليومية للفلسطينيين مع الجيش الإسرائيلي، فغزة زنزانة كبيرة يحرسها سجان صلف يطوقها وينتهكها كما يشاء في كل لحظة.
القرن التاسع عشر والعشرون كانا مراحل تهافتٍ وتناهبٍ وأنواعِ الاستغلال والضغوط من طرف الغرب لدول العالم التي لم تعرف الثورة الصناعية التي عرفها الغرب. وسنة 1917 بعد الانتصار في الحرب العالمية الأولى وسقوط الدولة العثمانية تناهبت دول أوربا هذه التركة وقام وزير خارجية بريطانيا جيمس أرثر بلفور بتقديم وعد رسمي لليهود بإقامة دولة خاصة بهم في فلسطين، وهو ما سمي وعد بلفور. وسنة 1920 وقعت فلسطين تحت الانتداب البريطاني فاستصدرت بريطانيا بتحالف مع الدول الكبرى سنة 1922 قرارا من عصبة الأمم سلمت بموجبه أرض فلسطين نهائيا لليهود سنة 1948 السنة المعروفة بسنة النكبة.
تعرض الشعب الفلسطيني منذ صدور الوعد المشؤوم من طرف العصابات الصهيونية المحمية بالجيش البريطاني للتهجير ومصادرة الأراضي وللمجازر الواحدة تلو الأخرى، وخاض معارك لا حصر لها من أجل البقاء في أرضه، وتكالبت عليه القوى الكبرى، كما تواطأ عليه بعض أشقائه، وتركه لقدره البعض الآخر.
منذ 1948 حادث النكبة والتهجير الكبير من فلسطين وتسليم فلسطين من طرف الانتداب البريطاني لإسرائيل والاستيلاء على الأرض، لم تفتأ الجيوش الإسرائيلية تمارس وحشيتها على الفلسطينيين الذين تخلفوا هناك محرومين من جميع الحقوق يتعرضون من حين لآخر لمذابح جماعية كما في دير ياسين وصبرا وشاتيلا والرملة وجينين…. لكن الشعب الفلسطيني لم يستسلم يوما لتلك الممارسات وظل يقاوم بالصدر العاري دائما وبالاشتباكات طورا والكر والفر والحجَر والاستشهاد.
سبع حروب وثلاث انتفاضات وسلسلة صراعات مسلحة
سنة 1948 شاركت في الحرب ضد الميليشيات الصهيونية وطرد المحتل الإسرائيلي كل من مملكة مصر والمملكة السعودية والمملكة الأردنية والمملكة العراقية وسوريا ولبنان. 5619 العدوان الثلاثي على مصر من طرف فرنسا وبريطانيا وإسرائيل إثر تأميم قناة السويس من طرف جمال عبد الناصر. وسنة 1967 تلقت جيوش الدول العربية مجتمعة بقيادة مصر وسوريا هزيمة مروعة من أجل تحرير فلسطين فيما سمي بنكسة 6719، وأسفرت عن احتلال إسرائيل للضفة الغربية التي كانت تحت الحكم الأردني واحتلال شبه جزيرة سيناء وقطاع غزة الذي كان تحت الحكم المصري واحتلال هضبة الجولان التي كانت تحت الحكم السوري. ثم سنة 1976 تمت اتفاقية كامب ديفيد بين إسرائيل ومصر. وسنة 1970 كان أيلول الأسود الذي تسبب في إخراج منظمة التحرير الفلسطينية إلى لبنان. 7 أكتوبر 1973/ 10 رمضان 1393 ذكرى حرب الستة أيام أو حرب يوم الغفران التي شنتها مصر وسوريا. وسنة 1978 احتلال إسرائيل لجنوب لبنان وانسحاب قوات منظمة التحرير شمال نهر الليطاني. ثم حرب لبنان 1982 ـ 2000 احتلال إسرائيل جنوب لبنان. ومذبحة صبرا وشاتيلا. وخروج منظمة التحرير الفلسطينية إلى تونس. والحرب الأهلية اللبنانية التي حسمها حزب الله
الانتفاضة الأولى ثورة الحجارة. 1987انتفاضة الأقصى. شتنبر 2000 دخول شارون وجنوده للمسجد الأقصى. يوم 9 أكتوير 2005 فرضت مصر وإسرائل حصارا جزئيا على غزة. 29 شتنبر2006/ 25يناير2006 فازت حماس في الانتخابات ب 76 مقعدا من بين132 وحركة فتح 45 فقط. وفي 9أكتوبر2023 فرضت إسرائيل الحصار الشامل بمنع الماء والكهرباء والغذاء والدواء عن غزة مع القصف المتواصل ومطاردة المدنيين في المستشفيات والمدارس وأماكن اللجوء.
في السبعينيات قرر الفلسطينيون تحمل مسؤوليتهم كاملة في الدفاع عن بلادهم واستقلال قرارهم وتكوين منظمات تحرير، وتعرضوا بسبب ذلك لعدة نكبات وتهجيرات إلى لبنان وتونس قبل تدجينهم أو خداعهم للعودة بهم إلى فلسطين باتفاقية أوسلو التي انتهت إلى نكبات آخرها هذه النكبة المعيشة حاليا، وجعلت فلسطين أرضا مستباحة للقصف الجوي والبري والبحري بهدم المساكن والمباني على رؤوس ساكنتها وتعميم الهدم والردم والأرض المحروقة والتخريب والتدمير الشامل ونشر الموت وتحويل الفلسطينيين أطفالا ونساء وشيوخا ما بين جثامين وشهداء أو أشلاء متناثرة أو جثث محروقة أو لحوما تحث الردم مجهولة الرقم والهوية. لكنْ أرواحا في كل الأحوال تحتفي بهم السماء وتفتح لهم أبواب الجنان، وإلى معطوبين ومرضى وعاجزين تتنزل بسبب معاناتهم اللعنات وتوصم بهم خراطيم كل من ساهم في هذه المأساة أو دعمها أو تراجع عنها أو تهاون أو سكت أو انصرف أو عَمِيَ.
لكي يثقل المجرمون صك جرائمهم أضافوا جرائم قطع الماء والكهرباء والدواء والغاز والبنزين والطعام والمؤن ومختلف وسائل العيش ليغرقوا الأرض والإنسان في معاناة لم يسبق لها مثيل في التاريخ.
تاريخ طرد اليهود من أوربا وعموم دول الغرب
طموحات الصهيونية كانت دائما كاسحة، لقد عملت على تنظيم نفسها وبناء مشرعها القائم على قراءة دينية تعتبر إسرائيل شعب الله المختار، وما سواه ليس فقط عبيدا مسخرون لخدمة إسرائيل كما هو اعتقاد الحركة الاستعمارية التي اكتسحت العالم واستعبدت الشعوب المسالمة، بل أكثر من ذلك فإن العقيدة الإسرائيلية تعتبر باقي البشر حيوانات يجب أن يسخروا لخدمة إسرائيل ولتأمين سيادتها على الأرض.
ناقض المشروع الإسرائيلي في بدايته مع المشروع الاستعماري، فقد اكتشف الغرب المشروع الصهيوني وخبر أفعال ودسائس الحركة الصهيونية واستغلال وجودها في هذه المجتمعات لممارسة أنواع الاستغلال والإفساد والإجرام، ما عرض اليهود للطرد من عدد من دول أوربا المتطلعة لاستعباد العالم والسيطرة على موارده وثرواته واستعباد الكائنات الأخرى واستغلالها ومحو فائض الإنتاج البشري وتصفيته بالإبادات الجماعية.
يتعين في هذا المقام عرض بيان لعمليات الطرد التي تعرض لها هذا الكيان من طرف مختلف دول الغرب بسبب الممارسات التي تميز بها اليهود والجرائم التي يرتكبونها في مختلف تلك البلاد.
طرد اليهود من أنجلترا أول مرة سنة 1220 ثم طردوا للمرة الثانية سنة 1290/ من فرنسا سنة 1322 ثم طردوا مرة ثانية 1394 بعد أن أعيدوا إليها سنة 1359 / من المجر سنة 1349/ من إسبانيا سنة 1492 / من النمسا سنة 1421/ من البرتغال سنة 1497/ من نابولي سنة 1510/ من ميلانو سنة 1597/ طرد اليهود من إيطاليا سنة 1791/ من ألمانيا 1933 و 1941 و1943/ من بولندا والنمسا وبوهيميا ومورافيا وسلوفاكيا وهولندا وبلجيكا وهنغاريا واليونان.
تقوم الضرورة للتساؤل عن هذا التاريخ الأسود ولماذا يطرد اليهود دون غيرهم من بلاد العالم لولا ما يقومون به من مفاسد وما يزرعونه من دسائس ويتعاملون به من استغلال ونهب للشعوب والمجتمعات التي سكنوها، إذ لائحة الأحداث والجرائم وأنواع المفاسد التي ارتكبونها في البنيات التي احتضنتهم كثيرة يطول عرضها، منها ممارسات شيطانية جددوها بما يعرف بعبدة الشيطان وبالاتجار بالبشر وبالأطفال والأعضاء البشرية وبتخصصهم في التخريب والدس والاغتيالات والتجسس والشيطنة بين القوى المختلفة الوطنية والدولية، وفي التنظمات المافيوزية واللوبيات ، وصولا إلى ما يعرف حاليا بازدواجية الجنس والمثلية وبالديانة الإبراهيمية إلى ما لا نهاية له من المكائد والخدع والجرائم ضد الشعوب وضد الإنسانية مرورا بهذه المحرقة التي يرتكبونها حاليا في فلسطين.
وحدها المجتمعات الإسلامية من تجاوزت عن ممارسات اليهود ومكنتهم من العيش في مأمن بل حمتهم مما تهددهم في المناطق التي لفظتهم وطردتهم أو أثخنت فيهم قتلا ووحشية. ويكفينا الحديث عما عاشوه من رغد وهناء في الدولة الإسلامية منذ قيامها سواء في مهدها أو في البلاد التي دانت بالإسلام، ثم في الأندلس الإسلامية. ثم التذكير بما تعرضوا له بعد سقوط الأندلس من تنكيل، وما لاقوه من حماية وأمن في الدول الإسلامية جميعا. انتهاء بموقف السلطان محمد الخامس الذي رفض تسليم اليهود لألمانيا النازية.
احتلال الصهيونية لأوربا والدول الكبرى
الذي حدث أن الفكر الصهيوني بما عرف به من مكر واحتيال أعاد تكييف مشروعه على آماد وأولويات ثلاثة:
الأول: أنه بعد الثورة الثقافية التي أجراها الغرب، ومناداته بالأخوة والمساواة وحقوق الإنسان، صنعت الحركة الصهيونية أسطورة الهولوكوست المعبرة عن المراجعة التي أجرتها لتأزيم الغرب وتهديده بذنب جسيم سمته المحرقة والهولوكوست كجريمة كبرى أقنعته بارتكابها، وزرعت فيه عقدة ذنب تجعله يقبل بمعاقبة نفسه للتكفير عنها، كما اتخذتها أداة لابتزازه سياسيا واقتصاديا. لقد استغلت مرحلة اتجاه المجتمع الدولي، الذي ضج من الحروب والأزمات، لبناء القيم الإنسانية الكبرى المتمثلة في العدالة والمساواة وحقوق الإنسان وإرساء القوانين والأنظمة الضامنة لها، باختلاق أسطورة الهولوكوست أو تضخيمها ومسألة اضطهاد اليهود لتعقيد الضمير الغربي وتحسيسه بالذنب وفرض قانون الصمت والخضوع عليه بجعله يسن قوانين لتقديس ما سمي بالسامية ومعاقبة مناهضة السامية ومعاقبة كل من يشكك في الأساطير والأكاذيب التي تختلقها الحركة الصهيونية.
الثاني: استغلال تأزيم الغرب وتعقيده لإخضاعه لمنح مناصب ومواقع وامتيازات للصهاينة ومساعدتهم على الحصول والتوغل في إدارات الدول الغربية واحتلال مواقع القرار السياسي والاقتصادي والإعلامي فيها. وقد استطاعت قيادات هذه الحركة فعلا الوصول إلى هذا الهدف والتمركز في المواقع الحيوية التي مكنتها من التحكم في الدول العظمى وإصدار قوانين تقديس الصهيونية أو ما سمي بمعاداة السامية لتكميم الأفواه ومنع فضح ممارساتهم الإجرامية ولتحصينهم من المتابعة والعقاب على ما سيقترفونه من جرائم ومفاسد.
الثالث: بناء مصالح مشتركة مع الغرب ومطالبته بالتكفير عن ذنوبه بإقامة دولة لليهود ذات مهمة مزدوجة تخدم مصالحه في الوصول إلى السيادة على العالم من خلال تفكيك وتسميسم وسرطنة الأمة العربية والإسلامية المنافسة للغرب بحضارتها وثقافتها ودينها وتاريخها، ومساعدته على استغلال ثرواتها المتعددة الطبيعية وغير الطبيعية، ما يبرر مطالبتهم بصنع هذه الدولة ومنحها أرضا وتثبيتها فيها وأسطرتها وتمويلها وحمايتها ومدها بوسائل العيش والاستمرار والتفوق.
توغلت الحركة الصهيونية في البنيات الإدارية والسياسية والاقتصادية والإعلامية والاجتماعية، وأُخضعت المجتمعات الغربية لهذه الاستيهامات والأساطير التي تم تعزيزها بقوانين تركز عقدة الذنب في النفوس وتعاقب أي تشكيك ممكن أو أية محاولة للتفكير في الأمر أو البحث فيه أو الاقتراب منه بحيث صارت السامية طابو مقدسا لا يحق الاقتراب منه، فهي الدولة الوحيدة المسموح لها بامتلاك الطاقة النووية، وجيشها لا يقهر، وخبراتها استثنائية، وعلومها إلهام، وديمقراطيتها لا تضاهى، ومخابراتها لا غنى عنها للعالم.
كما استطاعت إغواء الغرب بوحدة الأهداف بينها وبينه وبالدور الذي ستنهض به لزرع الأحقاد والضغائن والتفرقة بين العرب والمسلمين وجعل أرضهم مستباحة لأنواع الصراعات والنزاعات واستعمال أنواع الاحتيال والدس وتلغيم العلاقات ووقف التنمية والتطور في الوطن العربي والإسلامي بجعل المنطقة بؤرة الصراعات البينية والتشتت والقابلية للعمالة والمساومة وصولا للسيطرة على قراراتها.
بهذه السياسات استطاعت الحركة الصهيونية التوغل في الغرب واحتلاله احتلالا كاملا شاملا واحتلال قراره لتنتقل إلى مرحلة تحقيق أهدافها الشخصية الدينية العقائدية ومشروعها للسيطرة على العالم باعتبارها شعب الله المختار، بحيث لم تعد بحاجة لمساعدة الغرب إذ تحولت الحركة الصهيونية إلى حاكمة لمختلف دول الغرب صاحبة القرار فيه من خلال من تختاره من حكام صهاينة يعبثون فيه ويسخرونه ويبيتون له.
كل هذا لنعرف ما تمثله إسرائيل في الجسم الغربي وما تمثله في دول العالم الكبرى.
احتلال الدول العربية والسيطرة على القرار العربي
التسرب لمواقع القرار الوطني كانت منهجية ناجحة قابلة للتعميم، ويمكن القول بكون الصهيونية استطاعت خلال العقود الأربعة الأخيرة إنجاز فتوحات هامة في الأمة العربية من تجاوز مسألة تطبيع العلاقات معها إلى صهينتها باختراق عدد من بنياتها الإدارية المركزية ومواقع القرار السياسي الاقتصادي الثقافي الإداري واختلاق تاريخ وتراث وحضارة وثقافة صهيونية في الدول العربية تحت مسمى يهودي وتلغيم العلاقات المحلية القائمة تحضيرا لتفجيرها في أفق طرد العرب والمسلمين والدين الإسلامي لصهينة المنطقة العربية بدعوى إرجاعها لأصلها اليهودي مع إرساء بنيات الاستقرار والتوسع وبناء مدن المستقبل لعودة هذا الجنس المختار وتمدده واستكمال الاحتلال الصهيوني للوطن العربي
بعد استكمال عملية احتلال الغرب صارت الحركة الصهيونية تتصرف في العالم بصفتها الجديدة صاحبة القرار في الدول الكبرى ومن خلالها تعمل لإخضاع العالم بحيث بلغت أهدافها منه إلى حد بعيد.
ضرورة طوفان الأقصى
لعلني لن أقول كفرا حينما أفكر بأن طوفان الأقصى استبق نهاية كانت موشكة أو نهاية فعلية لسقوط آخر جدار عربي إسلامي في أخطر وأهم وأنبل محاوره المركزية، وعرض البساط الأخضر كي تجوس إسرائيل خلال الديار بمكة والمدينة وغيرها شرقا وغربا وتصير الأرض العربية والإسلامية التي كانت عصية مستعصية ممهدة لإسرائيل تمشي في مناكبها وتأكل من رزق الله الواسع فوق وتحت وما بين الأرض العربية برها وبحرها وجوها.
والحقيقة أنه كلما أشرق يوم تأكد بما لا يدع مكانا للشك بكون الشمس لن تشرق من مغربها أبدا وأن اليد العربية مقطوعة لا سلطة لها ولا قرار. لربما تجاوز الأمر أهله فأصبحوا محكومين منزوعي السلطة والقرار بعد أن سلموه كما فعل كبار العالم لأباطرة العالم الجديد وحكامه الفعليين. ولربما مر تاريخ الإنسانية لمرحلة أخرى. يكفي ما نعيشه من مشاهد التخريب والإبادة الجماعية التي لا تتوقف لحظة دون أن تتحرك شعرة في الإدارات العربية لفعل شيء حقيقي يوقف الحرب أو يسعف الجوعى المرضى المعطوبين أو غير ذلك، فالأرض صارت ممهدة لشعب الله المختار الموعود بأرض يسيطر منها وبها على العالم ليحتله ويستعبده ويغير قوانينه وثقافته وبنياته المختلفة.
طوفان الأقصى ومفهوم الحرب
فعلا انتفض الرأي العام في جهات الأرض لإدانة الفعل الوحشي الهمجي الذي تمارسه إسرائيل على غزة ضدا على جميع القوانين، وضجت الشوارع والميادين بل وقاعات الكونغريس الأميريكي والبرلمانات الغربية والعربية والمجالس الحكومية والسفارات بالشجب والاحتجاج والمطالبة بوقف الحرب، كل هذا في الوقت الذي تشحن هذه البلاد جميعها قواتها البشرية وعتادها ومؤنها المتنوعة المستخلصة من جيوب المحتجين وأقواتهم، لمنع أي تراجع أو خصاص أو عجز قد يساعد على وقف القتل والإبادة، بل تستمر عاملة على تقوية البنيات التحتية والفوقية وما بينهما لإسرائيل، وتعزيز وضعها العسكري والمدني كي لا يتقهقر أو يحبط جيش لا يقهر أمام صمود واستبسال شعب راهن على الكرامة أو الموت بعدما عاني الإذلال والخذلان طويلا والموت البطيء.
ليست حربا هذه، ولا علاقة لها بالحرب ولا بقوانين الحرب. هي هجمة همجية على سجناء عزل مكدسين في زنزانة ضيقة ينوؤن بمعاناتهم من العزل والتنكيل والحصار والمجاعة فينتفضون.
كيف تكون حرب بين جيش يمتلك الطائرات ويقصف بها سماء مفتوحة لا غطاء فيها وهو يخبئ مواطنيه كالجرذان والحشرات في الأنفاق والجحور؟ وبين سجناء محاصرين في زنزانة يواجهون القتل والإبادة الجماعية والمطاردة في كل مكان والتشريد والمجاعة والتعفن بقطع الماء والكهرباء والدواء والطعام وغيره.
وما معنى مطالبة شعب كامل بالموافقة على الخروج من بيته وأرضه ووطنه للتشرد والمطاردة كي تحتلها شراذم مستقدمة من الآفاق البعيدة، أو تتم إبادته إن لم يفعل؟؟؟
لماذا يقبل العالم تهجير الفلسطينيين وقصفهم ولماذا يقبل العرب
أما لماذا العالم؟
فلأن الإعلام يغسل أدمغة الغرب وأدمغة الدول العظمى ويمنع تسمية هذا الاحتلال باسمه الصريح، فالمهمة الرئيسية للإعلام الذي تتحكم فيه إسرائيل عالميا هو العمل المتواصل على إخفاء حقيقة الاحتلال الإسرائيلي لدول الغرب، وتحميله مظلومية وعدوانا وأسطورة محرقة يتحتم عليه التكفير عنها في كل لحظة، ومطلوب من مختلف الجهات رفع المظلمة وتقديم الحماية والدعم والتعويض عما تدعيه إسرائيل من مظالم يلحقه بها جميع من في الكون. هم دائما مظلومون مضطهدون رغم إمساكهم حيثما كانوا بقوة ومفاتيح السياسة والاقتصاد والرأي والسلطة والقرار. يكفي أنهم حولوا حائط البراق إلى حائط مبكى، ما يؤكد الطبيعة الاحتيالية المخادعة لهذا الكيان.
ولأن الغرب يخضع للاحتلال الإسرائيلي في أقوى بنياته ودوله العظمى، ولكونه مأمورا من طرف الصهاينة الذين يمسكون مقاليد الأمر والنهي والقرار، ويختارون منهم الرؤساء والحكومات والمسؤولين وينصبون أو يغيرون وهو أمر لم يعد سرا، بل صار مصرحا به من طرف بعض الرؤساء منهم رؤساء الولايات المتحدة، إذ صرح الرئيس بايدن علنا بكونه صهيونيا وعمل الرئيس ترامب كصهيوني خالص، دون الحديث عمن قبلهما.
هناك خصائص تتربى عليها الحركة الصهيونية منها ما نسميه ذلاقة اللسان لكسب الصداقات ونسج العلاقات، ومنها البحث عن الأسرار والأخبار أو فبركتها، ومنها توفير ما يفسد ويوصل للإفساد، ومنها التسرب بجميع الوسائل للمواقع الحيوية التي هي مجالات اشتغالها الأساسية، بحيث لا يمكن أن تخلو قصور الرؤساء والأمراء والكبراء من الحضور والنشاط الصهيوني، سواء في حرمها وبلاطاتها ومحيطها الذكوري أو الأنثوي. ففي هذا المجال والبيئة المركزية تطبق الصهيونية مخططاتها السياسية والاقتصادية والثقافية فتقوم بالإيقاع بالمعنيين والتحكم فيهم، أو بالوقيعة فيما بينهم، وبتوجيه السياسة والاقتصاد والثقافة والمجتمع بعد خلق المناخ الذي يؤهلها للتحكم والانتهاز.
بالرغم من كون الرأي العام الغربي يتحرك في الشوارع والمواقع الرئيسية وينتج أشكالا من الاحتجاج أملا في الضغط على المسؤولين للعمل على وقف القتل الأعمى، غير أن الأنظمة والحكام لا يصغون ولا يستجيبون ويواصلون أنواع الدعم والإمداد، وينخرطون في المعركة كشركاء كاملين في الجريمة، تقودهم عدوة الشعوب التي توقد الحروب والتي تدينها الحناجر في كل مكان وتطالبها بالكف عن ذلك.
أما الأمة العربية والإسلامية فقد اجتمعت القمة العربية واجتمعت الجامعة العربية واجتمع العرب والمسلمون واجتمع وتلاقى وانتقل وصرح وخطب وصدرت قرارات القمة وقرارات الجامعة العربية والخليجية والإسلامية ورفع الأمر إلى الأمم المتحدة.
يتعلق الأمر إذن بقرارات الأمم المتحدة، فالعرب والمسلمون لا يملكون القرار أبدا، وبديهي أن الأمم المتحدة لا يمكن أن تتخذ أي قرار لوقف الحرب على الأقل بسبب الفيتوات ومنها فيتو الولايات المتحدة التي تعبر عن الرفض علانية وتنخرط عمليا في إدارة العدوان وتقيم جسر الإمداد بالأسلحة والعتاد وتدبر الاستراتيجيات من خلال أقطاب مختلفة وموزعة في العالم.
الدول العربية والخليجية تعرف جيدا هذه الحقائق، وتعرف جيدا أنها مهما جمعت من تحالفات أو أغلبيات في الأمم المتحدة فإن الفيتوات لن توصلها أبدا لوقف الحرب. لكن الحرب ليست في الأمم المتحدة أو الولايات المتحدة أو في غيرها، بل الحرب داخل الدار العربية والخليجية والإسلامية. بل العجز عن خوض الحرب، وما الحرب إلا ما علمتم وذقتمُ، أو تجنب توسيع الصراع والوقوع في حروب مفروضة على العرب دون أن يكونوا في مستواها أو مؤهلين لخوضها، كل ذلك لا يمكن أن يعفيهم من الحد الأدنى من المساعدة، على الأقل تقديم الدواء والغذاء والماء والكهرباء وأبسط متطلبات الحياة للمدنيين العزل الذين يعاملون كالذباب والحشرات يدكون بالصواريخ والحرائق والمواد الممنوعة ويتعرضون للإفناء والتعذيب وأنواع المحن.
أولا: هل يمكن توفير غطاء لسماء غزة؟ على الأقل باعتراض الطائرات التي تقصف دون توقف، الأمر الذي يهدد بخطر إشعال حرب في المنطقة وتوسيعها.
وإذا لم يكن ممكنا توفير غطاء لسماء غزة، فهل يمكن كسر الحصار الإنساني عنها من طرف مئات الآلاف من الشاحنات التي تصطف في معبر رفح منذ أشهر، قادمة من دول العالم ومن الدول العربية والإسلامية. ألا يمكن لهذه الدول أن تقرر توصيل المعونات والحاجيات الحيوية للجرحى والجوعى وتتعاون على إدخال هذه الشاحنات واقتحام المعابر بشكل جماعي سلمي.
ولماذا تحتاج لمطالبة إسرائيل بفك الحصار عن غزة وبإمكانها اقتحام هذا المعابر الإنسانية سلميا؟
بل لماذا اللجوء إلى الأمم المتحدة لوقف الحرب على غزة بينما يمكنها وقف الماء والغذاء والغاز والنفط عن إسرائيل لتتوقف حالا عن القصف. ويمكنها منع الجو والبر والبحر العربي لمنع الإمدادات من الخارج ومنع الدخول والخروج حيث ستختنق إسرائيل وتتوقف حالا عن المذبحة التي ترتكبها؟؟؟
أو بل ما فائدة التطبيعات والعناقات والاتفاقات والاستقبالات العربية والإسلامية لإسرائيل إذا لم يكن لهذا الحب العربي والإسلامي المترامي المتعدد أثر وتجاوب من الطرف الآخر الإسرائيلي.
يعاني العرب كل حين من أحكام وعقوبات المنظمات الدولية وهي كثيرة نسيها العرب بقوة الأحداث فلم يفعلوها ضد أعدائهم. وحتى محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية غابت عنهم. من حظ غزة أن تنهض دولة جنوب افريقيا لرفع دعوى في محكمة العدل الدولية، لكن أية دولة عربية لم تلتحق بها ولم تساندها.
هل اليد العربية مكبلة أم متواطئة ولماذا
مذابح غزة أبكت شعوب العالم واستنهضتهم للاحتجاج في الساحات وإبداع أشكال مختلفة لإبلاغ أصواتهم المطالبة بوقف القصف على الأبرياء. أما أغلب مؤسسات الدول العربية فتعيش أفراحها ومناسباتها واحتفالاتها ومهرجاناتها الغنائية الفنية الراقصة وتحتفل برأس السنة أو رؤوس السنوات لا تعير شأنا لمن يقصف أو يحرق أو يتحول أشلاء. حتى لو لم يكن من يتعرض لهذا الوضع إخوة هذه الدول العربية في العروبة والإسلام، فالإنسانية لا تسمح بتعذيب الحيوان بله الإنسان بشكل جماعي، الأمر الذي استنهض الشعوب والأمم والأحرار في بقاع العالم.
هل هي حالة الصدمة التي أصابتهم بالشلل؟ لكن هل الصدمة أم انشغالهم بحياتهم ومباهجهم؟ ربما كان لازما تشغيل المغنين والمطربين والراقصين حتى لا يتعرضوا للإملاق، كذلك الترفيه عن المواطنين لنلهيهم عن التضامن أو الالتفات لما يحدث؟
أو ربما، أو بل تحتم علينا منح إسرائيل اليد الطويلة لإنجاز مهمتها بدون تشويش من الجماهير العربية التي تتولى إداراتها مهمة الحصار والإلهاء بأنواع الأنشطة والمقابلات والمؤتمرات والمهرجانات والمناسبات.
لقد مر العالم قطعا إلى مرحلة أخرى إن لم تعط عملية طوفان الأقصى نتائجها النهائية بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأرض الفلسطينية كاملة، وهي على ما يظهر لن تعطي هذه النتيجة النهائية، إذ سيكون أمامنا زمان ومكان ووحرب كبرى أوحروب. لكنها ستكون فتحت أعين العالم إلى حد ما على حقائق كثيرة لم تكن واضحة للكثيرين سيما في الغرب.
سيدرك الغرب كون إسرائيل دولة محتلة لفلسطين.
وأنها دولة ظالمة تنتهك حقوق الإنسان الفلسطيني.
الأهم من ذلك الابتزاز الذي تمارسه على جيوبهم وضرائبهم وأداءاتهم وعلى ثرواتهم ومستخلصاتهم، إذ تبتز مدفوعات مواطني الغرب لفائدة دولة معتدية كاذبة تدعي المظلمة بينما تحتل وتغتصب وتعتدي.
كما تفتح أعين العالم على من يحكمه ويسيطر على عقله ومعارفه ومقدراته من خلال الإعلام والقوانين والمنتخبين والحكام واللوبيات.
وسيبحث عن مقدراته وثرواته، ما هي؟ ومن أين تأتي؟ وكيف ينهب الغرب باسمه ثروات المستضعفين لتصب في المشروع الإسرائيلي النهم.
بل سيكتشف حقيقة كونه محكوما مستعمرا مستغلا من طرف الصهيونية العالمية.
وسيبحث لمعرفة الخطر الصهيوني والمشروع الصهيوني وتفهمه واستيعابه.
ثم سيتساءل ما هي العدالة الدولية؟ وهل العدالة الدولية متحققة ومضمونة بهذه المؤسسات الدولية المخولة لإقامة العدالة في العالم؟؟؟؟
أما الوطن العربي فما تزال الصورة معتمة نتيجة هذا الوضع العربي المتصهين المستعمر المحكوم رسميا ومباشرة من طرف الصهيونية العالمية بعد أن اخترق وأخضع طوعا أو قسرا بخدع وأكاذيب وعمليات وأوقع المسؤولين العرب في شباك وفخاخ ليسيطر على القرار العربي ويسخره. أو يشله ويعيقه في أحسن الأحوال، لتصير انتظاراتنا منه بعيدة.
من واجبنا قبل الختم أن نرفع فروض التحية والإكبار والاعتزاز بتلك الدول والكيانات العربية التي خرجت عن هذا الانهيار العربي وتصدت بكامل الشجاعة والقوة والكفاءة للقوى الباغية وتكبدت بذلك ما تكبدته بكامل المسؤولية والحزم والتضحيات.