إسبانيا، كما هو معلوم، دولة محكومة بنظام الملكية البرلمانية. لرئيس مجلس الوزراء ( وهي مرتبة أرفع دستوريا ) الحق فيها لممارسة كافة السلطات التنفيذية، وخاصة مجال السياسة الخارجية، التي لا يقاسمها أحد معه، إلا عند طلب الاستعانة بالمستشارين؛ على اعتبار أن وزير القطاع، هو منفذ ومنسق عمل الجهاز الدبلوماسي في الداخل والخارج .
إن القرار التاريخي الذي اتخذه الزعيم الاشتراكي، بيدرو سانشيث، العام الماضي، بخصوص إنصاف المغرب والمغاربة، بالاعتراف بحقوقهم في الصحراء؛ لم يكن قرارا شخصيا أو مزاجيا، بل هو نتاج تفكير عميق وشامل؛ مؤسس على الاستئناس برأي الخبراء الجيوسياسيين؛ واستباق كذلك لردود الفعل الأجنبية المحتملة، المؤيدة أو المتحفظة.
وكان العاهل الاسباني في مقدمة من وضعهم سانشيث، في صورة ما أقدم عليه؛ والملك ذو نفوذ معنوي، متفق عليه شعبيا وسياسيا؛ فيما يتعلق بالقرارات الهامة والمصالح العليا في البلاد؛ فضلا عن أن رئيس الوزراء استمزج رأي الجيش والاستخبارات، وكذا كبار الساسة ورجالات الدولة،من ذوي الخبرة والرأي الراجح؛ وبالتالي جاء اعتراض المعارضة شكليا (عدم اخبار البرلمان) على قرار” سانشيث” كان احتجاج المنتقدين، ألطف وأخف، مما سجله العالم لدى سلطات الجزائر، التي زمجرت سريعا، بقرارات عقابية رعناء، ضد إسبانيا؛ شملت مجالات التعاون الثنائي؛ خرقت بها قوانين واتفاقيات دولية، يعتبر الاتحاد الأوروبي طرفا فيها.
وأخطر من ذلك؛ وفي تجاهل تام لأبسط أسس العلاقات الدولية، ألغت الجزائر من جانب واحد، اتفاقيةالصداقة والتعاون مع إسبانيا؛ دون عرضها على البرلمان الجزائري للمصادقة على قرار الحكومة أو رفضه، كما يجري الشأن في الانظمة الديموقراطية.
هذا هو المنطق العام الذي يحكم علاقات الجزائر مع من يخالفها الرأي، في قضية وحيدة، هي نزاع الصحراء المغربية.
لقد سعت جارة المغرب، على مدى أكثر من نصف قرن، وبأقذر أساليب البيع والشراء والارشاء، لإطفاء غليل حقدها التاريخي على جارها المغاربي.
وها هي الاآن، تسجل بمرارة، على نفسها نتائج فشل ذريع، تتودد بسببه، لإسبانيا، طمعا في تراجعها عن قرار، أطاح بأوهامها العشوائية ؛ ونتيجة تخبطها الواضح في صياغة القرارات الكبرى بناء على منطق أهوج. واهمة, مطلق الوهم هي الجزائر: في الماضي والحال والاستقبال…
إسبانيا دولة مؤسسات، عقلانية وبراغماتية في سياستها الخارجية، عضو فاعل في منظومة الاتحاد الأوروبي والناتو ؛ وبالتالي، يصعب عليها أخلاقيا ودبلوماسيا، التخلي هكذا، عن قرار سيؤكد مجلس الأمن، سابقا ولاحقا ، رجاحته؛ حتى في ظل سياقات دولية لم تكن كلها في صالح المغرب.
أكيد، أن مدريد، بحكم حرصها على استمرار علاقات مستقرة مع الأطراف، والدول المؤثرة في النزاع من قريب أو بعيد. وانطلاقا من الرغبة المشتركة في سيادة السلم في منطقة النزاع ؛ تستطيع أي إسبانيا، أن تمد قارب النجاة لحكام الجزائر، لإنقاذهم من الغرق المحقق؛ لإخراجهم من ورطة تاريخية وتخليصهم من إثم سياسي ارتكبوه، ظلما وعدوانا، في حق المغرب جارهم الأقرب.
وإسبانيا، باعتبارها القوة المحتلة سابقا للصحراء المغربية، و بحكم درايتها التامة بأدق تعقيدات الملف، لقادرة، بتعاون وتنسيق محكم، مع المغرب وباقي الاطراف؛ على الاضطلاع بدور إيجابي، لتقريب وجهات النظر المتباعدة. ستجد بالتأكيد، كامل التفهم والواقعية من جانب المملكة المغربية. ولعلها تنجح في اقناع الجزائر، بالكف عن العناد ومعانقة الوهم.
إن صراخها اليوم، وغدا، مهما علا وارتفع ؛ فإنه ضائع، تائه في شعاب وادي الذهب والساقية الحمراء، لا يسمعه إلا الغربان..