بادر محامو جماعة العدل والإحسان بالدارالبيضاء ، إلى دعوة زملائهم من مختلف الحساسيات ، لحضور لقاء تواصلي حول “الوثيقة السياسية” ، ولم أتردد كعادتي في الإستجابة لنداء المشاركة في دعم هذه المبادرة التي اعتبرتها لحظة تشاورية للمكاشفة بتقييم مدى جودة مطلب تجسير التواصل الإنساني المؤطر لكل ما هو مهني وحقوقي وسياسي ؛ فاللحظة كانت فرصة لإطلاق وتحفيز كل إمكانيات التمرين على دمقرطة الحوار ؛ ورغم بعض سوء الفهم الحاصل بسبب خلل في تدبير عملية التواصل ؛ فإن اللقاء كان مفيدا مبرزا أسباب سوء التفاهم ، حتى لا نقول سوء الفهم .
وقبل أن أبسط أهم النقط والملاحظات التي تناولتها في مداخلتي المختصرة بسبب الحيز الزمني ( خمس دقائق عوض 15 الموعود بها ) ؛ قبل ذلك أريد أن أنبه إلى أن حضور مسؤول من الدائرة السياسية ، وهو أستاذ جامعي مختص في مادة القانون الدستوري وعلم السياسة ، خلق ( عن حسن نية منفعلة ) نوعا من الإرتباك بسبب طريقة تواصله ، فقد تماهت لديه المهمة بين تمكين الحضور من توضيحات وبين مهمة الدفاع عن الوثيقة السياسية ، وبين الدفاع عن الهوية الحزبية والتي اعتبر نقاشها بمثابة محاولة للنيل من الهوية الإسلامية كمرجعية للجماعة وبمثابة وسيلة ” ضغط ” لدفع الهيأة للتنازل / التخلي عن ” مبادئ هوياتية ” ! .
وكان لهذا التشنج المتواتر ، بسبب كثرة التعقيبات والمقاطعة بعلة التوضيح ، أثر على انسياب الحوار الذي كان جديا ومسؤولا . مما اضطرني لطلب نقطة نظام حيث طلبت من القيادي، بكل وقار ، أن يكف عن مقاطعة التدخلات وإرجاء تقديم تعقيب شامل لاحقا . وهنا لامناص من التنبيه إلى أن قيمة التواصل تكمت في حسن تدبير الحوار وتجويد الإنصات . وفعلا تفاعل الدكتور بكل أريحية مع محتوى وجدية ” نقطة نظام منهجية ” التي أثرتها . ومن باب المسؤولية ، يسرني كثيرا أن أذكر بأن الهوية جدلية ، وينبغي أن تظل كذلك حتى لا يمحوها التاريخ ، والبعض منا يعتبرونها تابثة كي تتمكن من نفي التاريخ وتراكماته والكلفة البشرية المتعلقة به ، ليبقى المطلب محدودا في البحث عن اجماع وتوحد في الزمن الماضي الذي نشطت فيه ” الأمة ” كوعاء للخلافات والاختلافات ، والحال آن الوطن المتنوع والمتعدد لا يمكن الا أن يتعايش مع الهويات الجدلية المتفاعلة ، في المقابل لا ينبغي أن نبحث ، من خلال موقفنا المتوارث عن الهوية الجامدة ، عن إمكانيات تفسير الاختلاف كمجرد فصل بين الحق والباطل . وفي هذا الصدد كانت أغلب المداخلات (جديرة بالعناية والتعامل معها بكل الجدية المتاحة والمطلوبة ) ، تتوخى تعميق كل إمكانيات الإنفتاح بنفس توافقي بتقريب الهوة وليس الهوية المتطابقة ، فكل المغاربة سواسية في حرية اعتناقهم وانتسابهم ، في إطار حرية الإعتقاد وتعددية الإنتماء والتمذهب والمؤطر بالدستور ؛ لذلك حذرت أغلب المداخلات من مغبة إحتكار تدبير الشأن خارج المأسسة ووفق ما يقتضيه الدستور المتوافق عليه .
من هنا فإن الحلقة الضعيفة في سلسلة الوثيقة ” السياسية ” هي نزوع بعض مقدميها نحو التضخيم من المرجعية واعتبارها هوية ثابتة يصعب تحيينها ” تحريفها” عما سطره الإمام المؤسس ، مما يعني ذلك بالنسبة للمريدين ” حالة إنتهاك للطهرانية الإيمانية أو العذرية الدعوية ، والحال أنه وجب التمييز بين الهوية الجدلية كمشترك وبين المرجعية الفكرية كإنية ( نسبة إلى مصطلح الأنا ) ، وإلا فسوف تهيمن النزعة الدعوية على العرض السياسي ، والذي اعتبرته مجرد خط مرحلي مكثف الرسائل والإشارات ، رغم صياغته بنفس حقوقي وبعد أخلاقي ، ورغم سقفه اللبرالي المفارق لكل نزعة تقايدانية وأصولية غير حداثية ، في ظل تحولات عالمية اقتضى العقل الأمني ” الرأسمالي ” الكف عن دعم الحركات المحافظة واليمينية ذات المرجعيات المؤسسة على ” تنافسيات ” تستفز الشرعيات الدينية كعقيدة للحكم ؛ وفي ظل توقعات تروم الإعداد لإنتقالات سياسية محتملة ، وجب على كافة الفاعلين تأهيل أنفسهم وتجويد مقارباتهم لكيفية التعامل والتعايش في ظل الآفاق الجديدة المحتملة ، فليس زمننا السياسي سوى حلقة ضمن الزمن الإجتماعي الطويل الأمد ، الشيء الذي يتطلب من جميع الفعاليات السياسية ، بمن فيهم مهندسي الوثيقة دعاة التدرج والمرونة في أفق التغيير السلمي والحضاري ؛ التحرك بوثيرة ” الدلك والفور ” ؛ فالمرحلة تقتضي إطلاق ديناميات التقييم والتقويم بالمراجعات الضرورة ، وتقديم عروض سياسية قابلة للتفاعل معها وممكنة التفعيل في الفضاء العمومي والذي يحتاج إلى كثير من الحرية والإستقلالية المؤسساتية ؛ بما تعنيه من تحرير الإنسان والأوطان ورد الإعتبار لمطلب الديمقراطية الذي أنهكت طاقته بإستعماله كوسيلة وليس كغاية تحقق فعلا دولة العدالة والكرامة والأمن .