وأخيرا سلمت اللجنة المكلفة ( ملكيا ) بتدبير النقاش التشاوري وبصياغة توصيات من خلال إستنتاجها وتركيزها لما تلقته من مقترحات وطلبات من لدن من ترافعوا حضوريا أو ممن قدموا مذكرات ” عن بعد ” ! ويبدو أن رئيس الحكومة بعد إطلاع الملك بصفته أمير المؤمنين على ” خلاصة الأشغال ” سوف يحيل المنتوج – في صيغة مشروع قانون – على مجلس النواب للمناقشة ثم المصادقة وذلك داخل أجل معقول .
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هل سيفتح نقاش عمومي ليوسع من الصبغة التشاركية على المبادرة التشريعية ، باعتبار أن سياق المبادرة الملكية غير معزولة عن محاولة التوفيق بين متطلبات العصر ، خاصة بعد مرور ربع قرن على ولوج المغرب زمن الألفية الثالثة تزامنا مع حلول عهد ( جديد بالنظر للعهد السابق ) تعهد مهندسوه والملك الخلف على تحقيق المشروع المجتمعي الحداثي والديمقراطي ، يرى اعتماد المفهوم الجديد للسلطة مدخلا للإنتقال السياسي وعبر بوابة التنمية البشرية والقطع مع ماضي سنوات الجمر في أفق الإنتقال ديموقراطيا ؟ وبالتالي يطرح سؤال تبعي متعلق بمدى تمسك النظام بالإلتزام بتحديث الدولة والمؤسسات الدستورية ؛ عبر استكمال تنفيذ توصيات هيأة الإنصاف والمصالحة إقترانا مع التوصيات الوجيهة المنبثقة عن تقرير الخمسينية حول التنمية . وفي هذا الصدد وبغض النظر عن ” حوادث الطريق ” الطارئة خلال هذا الزمن السياسي بإمتياز ؛ فإن تعثر تفعيل المفهوم الجديد للسلطة لم يكن في نقصان الإرادة وتردد العقل الأمني في العلاقة مع تمثل حقيقة وضرورة الإنتقال الأمني فقط ، بل إن التحول على مستوى العقيدة الأمنية لم يكتمل بسبب تعثر إستثباب قواعد المفهوم الجديد للعدالة .
ولذلك فإن النقاش العمومي ، ومن زاوية تحديث آلياته بغاية دمقرطة المبادرة التشريعية بتوسيع مجال القانون كاختصاص للبرلمان ، رغم خصوصية مدونة الأسرة بتماس القانون مع الشريعة في العلاقة مع متطلبات التغيير الإجتماعي ومخاطره ، إن النقاش العمومي لا ينبغي أن يسقط في فخ التموقع داخل السجال الإيديولوجي حول القدرات ( الذاتية / الداخلية ) للشريعة كما يقول الأستاذ نجيب بودربالة في كتابه ” القانون بين القبيلة والأمة والدولة / جدلية التشريع : العرف الشريعة والقانون ” الصفخة 205 . لأن المجتمع السياسي وقوى المجتمع المدني يراهنون على الدولة باعتبارها المسؤولة عن تحديث نفسها قبل تحديث المجتمع ، ولذلك وجب استحضار المرأة ومعها الأسرة وذلك من خلال ما تمخض من توصيات وأدبيات عن مؤتمر بجين لسنة 1995 ، وتقييم وقعها وإنعكاسها على مقتضيات الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية ، والتي ناهضتها القوى السلفية والمحافظة ؛ والتي لا يمكن تبرئة الدولة من مسؤوليتها في فشل وإجهاض التحول ” التحديثي ” المتعهد به .
فعندما نطالب بدولة قوية وآمنة ، بدل دولة مخيفة وأمنية ، فإن التحديث هو المدخل وإلا سيبقى التحول رهين تمثلات يؤطرها تنافس الشرعيات ( الدينية والأخلاقية أساسا ) ، والحال أن الأمر يتعلق باختبار لجرأة الدولة على أن تلائم التشريع مع التحولات العظمى الجارية على أساس أن القاعدة القانونية قاعدة إجتماعية ، وبأنه لا يعذر أحد بجهله للقانون ، وأنه لا إجتهاد مع وجود نص قانوني . وكمثال للإستئناس من أجل الإستشهاد دون الإستنتاج ، ولأن الواقع أثبت بأنه أعطيت لمن فاتتهم فرصة إبرام عقد الزواج كوثيقة وحيدة توجبها المادة 16 من مدونة الأسرة ، ففتح أجل خمس سنوات ثم ثم مدد إلى فبراير 2019 ؛ فإن عملية عدم توثيق العلاقة الزوجية ازدهرت بعد انصرام الآجال المحددة بمقتضى قانون ؛ رغم أن الفقرة الأخيرة من المادة 16 نصت (( يُعمل بسماع دعوى الزوجية في فترة انتقالية لا تتعدى خمس سنوات، ابتداء من تاريخ دخول هذا القانون حيز التنفيذ ))، والتي لا يمكن التوسع فيها لأنه يفهم من هذه الفقرة أنها تستهدف الزيجات غير الموثقة السابقة لتاريخ صدور القانون بالجريدة الرسمية . ولأنه تم التساهل من قبل القضاء بإسم الإجتهاد فقد إزدهرت ظاهرة تزويج القاصرات وكذا قضايا سماع ثبوت الزوجية وذلك تحايلا على مساطر الإذن بالتعدد ، وأغلبها قضايا جاءت بعد إنصرام الأجل المحدد في فبراير 2019 . ولأن أغلب المحاكم صارت تمدد أجل سماع ثبوت الزوجية اعتمادا على قرار فريد صدر عن محكمة النقض ، وهو قرار وجب التعامل معه بنسبية شديدة ، فقد مدد الأجل خرقا لما يقتضيه القانون بالإحالة على المادة 400 م أسرة والتي تشترط غياب نص قانوني منظم للحالة ، والحال أن المحكمة بصدد النقاش من رحم المادة 16 وهي النص نفسه الذي يشرط سماع الزوجية داخل الأجل ، ناهيك عن عدم إثبات وجود قوة قاهرة حالت دون توثيق الزواج .
وإنه يتضح جليا أن قرار محكمة النقض اليتيم مدد الأجل والحال انه ممنوع في التعاقد المدني وبالأحرى بالنسبة للقانون ، وذلك في المبدأ الدستوري المقر بفصل السلطات ، وبالتالي لا يمكن التشريع محل السلطة التشريعية أو المالك دستوريا للمبادرة التشريعية ، كما لا يمكن منح أو تمديد أجل خارج عن الأجل المحدد بمقتضى نص قانوني ؛ وبالتالي فحتى المادة 400 م الأسرة تم خرقها فهي تنص صراحة أي المادة 400 من مدونة الأسرة إلى ضرورة الرجوع إلى اجتهادات المذهب المالكي في حالة عدم وجود نص قانوني يؤطر قضية ما، والذي يراعى فيه تحقيق قيم الإسلام في العدل والمساواة والمعاشرة بالمعروف . و يتبين أن النص إشترط ” حالة عدم وجود نص قانوني يؤطر القضية ” ، فأليست المادة 16 مدونة الأسرة هي النص المؤطر للقضية ، فهي التي اعتبرت أن عقد الزواج هو الوثيقة المقبولة ويمكن قبول سماع دعوى الزوجية في حالة ثبوت سبب قاهر حال دون توثيق الزواج ( بواسطة شاهدين عدلين ) وداخل أجل محدد قانون انقضى بحلول يوم خامس فبراير 2019 ، ولم يتم تمديده قط منذئذ . ومعلوم ومن المسلمات أنه في إطار توازي الشكليات والوسائل لا يمكن إلغاء أو نسخ نص قانوني إلا بنص قانوني ؛ وليس بقرار قضائي هو نفسه لم يعلل الأساس الذي اعتمده لصرف النظر عن نص قانوني لا زال قائم الذات والأثر القانوني ! ناهيك عن كون الفصل 128 ق ل ع والذي جاء فيه بالحرف : ” لا يسوغ للقاضي أن يمنح أجلا أو ان ينظر إلى ميسرة ما لم يمنح هذا الحق بمقتضى الإتفاق او القانون .إذا كان الأجل محددا بمقتضى الإتفاق أو القانون لم يسغ للقاضي ان يمدده ما لم يسمح له القانون بذلك “”
، ولذلك وجب التأكيد على مسألتين جديرتين بالإعتبار : اولا الإستنجاد بالمادة 400 من مدونة الأسرة لا يتم إلا في حالة وجود فراغ قانوني ( والحال أن النص متوفر بمقتضى المادة 16 ) وثانيا المادة 400 تنص على اعتماد الفقه المالكي ، وأن قرار محكمة النقض ، والذي تلقفته بعض المحاكم لمجرد أن السيد الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية أشار إايه في تقريره السنوي بمناسبة إفتتاح السنة القضائية 2023 ، أي أن القرار خال من أي موجب للإنتقال من المادة 16 إلى 400 في ظل غياب أي مقتضى يحيل هكذا ! وإن المادة 400 مدونة الأسرة تشترط حالة ” عدم وجود نص يعالج القضية ” والحال أن النص موجود وهو المادة 16 م أ والذي حدد أجلا ، وهنا لا يمكن لأي محكمة أن تبت في نازلة خارج الأجل المحدد والذي انقضى ، والذي لا يمكن تمديده إلا بمقتضى نص قانوني يعدل ويتمم المادة 16 . ولذلك من حقنا وواجبنا أن نتساءل مع المحافظين والحداثيين وغيرهم :
أليس مطلب إلغاء مقتضى سماع دعوى ثبوت الزوجية مطلبا مشتركا يمكن الإجماع حوله بالنسبة لمن يناهضون التحايل على مساطر الإذن بالتعدد وكذا محاربة تزويج القاصرات ؟ أليست مساطر ثبوت البنوة و النسب (.توجد طي المدونة ) وسيلة لتحقيق المصلحة الفضلى للأطفال وضمانا لحقوقهم بالنسبة لمن يتذرعون بوجود حمل أو أبناء جراء العلاقة غير الموثقة ؟