‏آخر المستجداتلحظة تفكير

مقايسات فكرية للعلامة د عبد الرحمن بودرع: في إنتاج المعرفَة ..وأخرى

1 ـ جُهدُ المُقلِّ جُهْدُك، واستطاعةُ العاجزِ، والصّدعُ بما أوتِيَت مِنْ قُوّةِ كلمة، فإن عجَزْتَ عن الكلمَةِ نفسِها لجأتَ إلى الرّمزِ والكنايةِ، فإنّ الرمزَ مَركَبُ العاجزِ المُريدِ، في زمنٍ يكونُ فيه الرّمزُ والإشارةُ أفضلَ من الصمتِ والفُرجَةِ، وفي زمنٍ تلوّثَ فيه الفَضاءُ الصوتي، وتعددت مَراكزُ الرّصدِ، وسهُل الرميُ بالتُّهَم، وهو على كل حالٍ أفضلُ من الاكتفاءِ بالنظرِ، ومُقدَّمٌ على الانسحابِ من المَشهَدِ والهروبِ مِن متابعَةِ الخَبَر ومن مُناصرَةِ القضيةِ.

لا تلتفتْ إلى المُخذِّلينَ الذين يُقللون من شأنِ الكلمةِ ويَلْبسونَ قناعَ الناصحِ الأمينِ ويستصغرونَ قيمةَ المنابرِ الافتراضيّة، فأولئكَ عَوْنٌ للخَصم عليكَ وعلى قضية الأمّةِ التي هي أيضاً قضيتُك، قَصدوا أم لم يَقصدوا، واحذَرْهُمْ أن يَفتنوك عن بَعضِ الإدلاءِ بدلوِكَ، فإنّ أصواتَ الإنكارِ إذا تعدَّدَت تَقرَّرَت وثقُلَت على قلبِ الخَصمِ وأصبحَت همّاً يُضافُ إلى هَمِّ المُقا*وَمَةِ التي تُواجهُه. واعلمْ أنّك وأنت تُدلي بدلوِكَ فإنّك تتبرّأُ من العُقودِ الجديدةِ، وتَشهدُ بأنّهم يُعرِبون عن أنفُسِهم وعَمَّن يَنوبون عنه، وسيشهدُ لكلِّ امرئٍ أو عليه، يومَ القيامةِ سمعُه وبصرُه وفُؤادُه وعَملُه، وحتّى عقلُه الذي فكَّرَ به في القضيةِ ويدُه التي كتَبَ بها مناصرةً وتأييداً.

2 ـ صفتان ثابتتان فيهم لم تَزولا على مَرِّ التاريخ ولا يُنتظرُ أن تَزولا بالتجربَة: نَقْض المَواثيق، ونَبْذ العُهود

الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [البقرة: 27]

أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [البقرة: 100]

فكيفَ تُبْرَمُ عُقودٌ مَعَ مَن نَقضَ عُهودَ الله من بعدِ ميثاقِها؟

3 ـ من النعَم التي تشعُرُ بها وأنت في مكانكَ، أنّكَ تنتمي إلى الأرضِ التي تثبِّتُ فيها قَدَمَيْكَ، ولكنْ: يمتدُّ انتماؤُك إلى المدى الذي ينتشرُ فيه الإسلامُ واللسانُ العَربيّ، بل المدى الذي تَسودُ فيه العقيدةُ، وتفتخرُ بوجودِكَ حيثُما رُفعَ الأذان وذُكِرَ اسمُ الله، في العالَم أجمع. فحيثُما رُفعَ فأنت ثَمَّ موجودٌ وحيثُما ذُكرَ اسمُ الله فأنت ثَمَّ موجودٌ، وحيثُما أوذِيَ الدّينُ والمسلمونَ وانتُهِكَت أرَضُوهُم ومُقدَّساتُهم بَلَغَكَ نَصيبُك من الأذَى.

فلينعَمْ بالانتماءِ والامتدادِ العالَمي مَن له هذا الشعورُ الرائعُ، ولِيَبْقَ في بُؤسِه وكَمَدِه وضيقِه مَن يُفضِّلُ اعتزالَ هذا المَدَى الحضاريّ البعيدِ والتنكُّرَ له.

4 ـ سينتهي الكيانُ عاجلاً أو آجلاً، وفَناؤُه المُبْرَمُ قَد بَدأ، والمشروعُ العنصريُّ قَد سَقَط، ولم يستطعْ -ولَن يستطيعَ- أن يقضيَ على الشعبِ لأنّ صاحبَ الحق مؤبَّدٌ غيرُ قابلٍ للمَحْو، عقلاً وتاريخاً واعتقاداً، كلَّما تقدّمَ الكيانُ في الوأدِ والإبادَة نَقصَ من أطرافِه هو، وأكَلَتْه الأرضُ والأرَضَى أكلاً لأنّها تَكرَهُه وتُنكِرُه وتلفظُه، ثُمّ تَزدادُ أطرافُ الأرض ضيقاً به واتساعاً بأهلها. جيلٌ بعدَ جيلٍ بعدَ جيلٍ يَتناوَبونَ في الارتقاءِ وفي حَمْلِ اللِّواء، ونحن الشُّهود، منّا المُبصرون ومنّا الغافلون ومنّا دون ذلك. وما غفلتُنا أو التَّغافُل بالذي يُغيّرُ من ميزانِ العَدالَة وحفظِ الحَقّ، والأيامُ تَعْدو وتَعْدو وكأنها عندَنا لا تَخطو.

5 ـ هلْ يُعَدُّ قَتَلَةُ الأنبياءِ والصّالحينَ، ووائِدو الحَياةِ والأحياءِ، ومُبيدو خَضراءِ الأرضِ ومُحرِقو يابِسِها، بشراً أو صنفاً من البَشَر؟

كَلّا ، لا يُعدُّ هؤلاءِ بَشراً؛ لأنّ بني آدَمَ كَرَّمَهم الله وحَمَلَهم في البَرِّ والبَحرِ ورَزقهم من الطّيّباتِ وفضَّلَهم على الخَلائقِ. فليسَ مِن شأنِ مَن خُلِقَ وأُكْرِمَ ووُهِبَ هذه الصفاتِ والمَزايا كلَّها، أن يُطفئَ أنوارَها ويقتلَ أحياءَها ويقتلعَ جُذورَها. فليسَ أولئك من صنفِ الأناسيِّ ، ولو كانوا كذلك ما فَعَلوا بنظائرِهم الشّرَّ المُطلقَ الذي لا يَخطرُ على بالِ إنسٍ ولا جانٍّ. فإذا عُرِفَ صنفُ الوَأدَةِ بطلَ العَجَبُ.

ولأمرٍ ما تجدُ العالَمَ بأسرِه وقضِّه وقَضيضِه يُطالبُ باعتقالِ السَّفّاحينَ ونَزعِ صفةِ الآدَميّةِ عنهم، ووضعِهم في قَفَصِ الوَحشيّةِ المُطلَقَةِ، خشيةَ الانتقالِ بالشّرّ من مكانِ الجَريمَةِ إلى الذي يليه. أمّا إذا رَفَعَ العَرّابُ يده بـ “حَقّ النَّقْضِ” المَزعومِ، للدّفعِ عن غيرِ الآدَميّين، فيجِبُ حينئذٍ جمعُ الطَّرَفَيْن مَعاً في كَفّةٍ واحدَةٍ من ميزانِ العَدالَة، وإلا فلا كفَّ للعَدالَة ولا عَيْنَ تُبصرُ.

6 ـ التناظُر بين المشهَد العِرفانيّ والفَضاء الذّهنيّ: تُشاهدُ مَشهَداً ما فيرتسمُ في ذهنِك مشهدٌ سابقٌ، فيتأثَّرُ الفَهمُ بالتّدخُّل الذّهنيّ أو الإسقاط الذّهنيّ:

مشهَد حَدّاد يَصهرُ الحديدةَ في النارِ الملتهِبَة، ثمّ يُمسك الحديدةَ بالملقاطِ فيُلقي عليها الغضَبَ الجَمَّ من الضَّرباتِ المطرقيّة ليُليِّنَها ويُطوِّعَها، فترتسم بذهنك ضرباتُ الظّالمِ بالسّوطِ ليُليِّنَ الضَّحيّةَ ويُطوِّعَها لِما يَشاءُ.

الذّهنُ لا يَنسى بل يستذكِرُ شيئاً مُلحّاً استدْعاه المشهَد ، وكأنّ مشهَد الحدّادِ ليس لَه من مَعنى في بعض المَدارِك إلا الضّرب والتّطويع.

مثال آخَر: غَسلُ الشَّوارِع من القاذورات والبقايا، يوازي في الذّهن غَسلَ النفسِ من بقايا الأحداث المؤلمَة والمَتاعبِ اليوميّة….

وقس على ذلك من غير تَعميم.

7 ـ هَلْ يَكفي للإسهام في إنتاج المعرفَة والأخذ بيد المجتمَع في معاناته، أن نَصفَ وكَفى، أن نكتُبَ البيَت والروايَةَ لسرد الحكاية من حكاية الواقع اليوميّ، هل يَكفي نَقلُ المَشاهِد في الشرائطِ. أليسَ الاكتفاءُ بالوصفِ والنقلِ والحكايَةِ، وإن كانَت عتبَة الدّار ومبْدَأ الطريقِ، تَكراراً ورَكماً للحوادثِ قد يَقودُ إلى أسوأ من المرادِ وهو إقرارُ الحالِ بكثرةِ الترديدِ. ألَم يأنِ لذوي الأقلامِ والقنواتِ والكلمَةِ أن ينتقلوا إلى إعادةِ توطينِ القِيَم وتَثبيتِ ثوابِتِ الأمّةِ في النفوس، وانتقادِ مشاهدِ السقوطِ، أليسَ من الحكمة أن يُعادَ المواطنُ إلى نماذجَ حيةٍ من تاريخِه النظيفِ الذي سلَّمَ فيه الآباءُ الوطَنَ إلى الأبناءِ بعد ما حَرَّروه من الاحتلالِ ومن المَفاسِدِ، أليسَ من سوءِ التدبيرِ أن نُفرِّطَ في العَطيّةِ الثَّمينَة؟.
8 ـ إشاعة فَوضى المبادئ والقيمِ لإسقاطِ المبادئ والقيم.

حان الحينُ لإنقاذِ الوطنِ وحمايةِ الجيلِ الناشئ من طاحونة القِيَم، لانتشالِ الجيلِ الناشِئ من بَراثن “النزعات الحقوقيّة المشبوهَة” التي لا كبدَ رطبة لها على وطن ولا مواطنين.

خُلاصةُ الأمر: “قُلْ كلٌّ يَعمَلُ عَلى شاكلَتِه فربُّكُم أعلَمُ بمَن هو أهدى سَبيلاً” والآية تذييلٌ لِمَا سبَقها، وتنهية للغرض الذي ابتُدىءَ به الكلامُ. ولفظُ “الكُلِّ” المنوَّنُ المَقطوعُ عن الإضافَة لفظُ عُموم يَجمَعُ أصنافاً من البَشَر، منهم الذينَ كَفَروا النِّعَم وأشاعوا الفَواحشَ في المجتَمَع. ولكلٍّ شاكلتُه وطريقُه وشُعبتُه التي تَشَعَّبَت منها أخلاقُه وغاياتُه.

فلا تيأسْ ولا تَبْتئسْ “فربُّكُم أعلمُ بمَن هو أهدى سبيلا” فعِلْمُ الله عامٌّ شاملٌ مُحيطٌ، والاختيارُ محدَّدٌ سَلَفاً بترغيب المؤمنين وإنذار المُفسدين.

9 ـ نكتبُ النّاقِصَ الذي لن يكتَملَ وسنظلُّ نكتبُ الناقصَ ولو أعْلِنَتْ الوفاةُ وتوقَّفَ النبضُ، ولعلّنا كلَّما وهنَ العظمُ منّا تشوّفْنا إلى اكتمالِ الرؤيَةِ واستيفاءِ المأمولِ وبُلوغ أفق الوعيِ، ثم إنّنا لم نَنْسَ ولن ننسى ما يُزَهِّدُنا أحياناً في فعلِ الكتابَة، والشّروعِ فيها، وهُمومُ الدّهرِ علينا شُرَّعٌ وُرُدٌ، أن نحترزَ من آفاتِ الكِتابةِ والكَتَبَة، التي ابْتُلِيَت بها أقلامُ اليومِ.

10 ـ كانَ عُلماءُ الأمّةِ قديماً لا يَسمحون لطالب العلم أن يُدرّسَ أو يُحاضرَ إلاّ إذا أجيزَ وأتى بما يُشهَدُ له به في ذلك الفنّ. فإنّ المُشاركَةَ في العلم أو في الفنّ من فُنون العلم، شهادةٌ أو إجازةٌ أو سَنَدٌ مُتصلٌ بينَه وبينَ أساتيذ ذلكَ العلم ومصادره ومظانِّه ومَباديه ومُنتَهى القول فيه والإشكالات المُثارَة فيه والمُقارَبات المُعتَمَدة والمَناهج المُتوسَّل بها…

أمّا اليومَ فقد اختلَطَ الحابلُ بالنابل، ولكنَّ الاختلاطَ لا يَمنع من إحياء سنَّةِ التَّحديث والإجازة في العلم، ولو كان المُجازُونَ من حَمَلَة الشهادات العصريّة

‏مقالات ذات صلة

Back to top button