على أرصفة الشوارع الشعبية، وفي قلب المدن العتيقة، يعرضون ثلة من الكتب القديمة والنادرة. من داخل محلاتهم المهترئة، المزخرفة والمرصعة بالزليج أو القرمد، تفوح رائحة لا تفعل شيئا سوى أنها تفتح شهية كل قارئ مولوع بالصفحات الصفراء، ذات الهوامش المنقوشة بملاحظات قراء عصر غابر. ضمن هذا الروبورتاج، سنأخذكم في رحلة إلى عالم الكتبيين، أو بائعي الكتب المستعملة بمالمدينة الاسماعيلية.
كتب: كريم الحدادي ( من مكناس)
من عاداتي، عندما أزور مدينة غريبة عني، أن أنقب عن بائعي الكتب المستعملة. إنه عشق سرمدي ممزوج بحب أبدي للكتاب الأصفر، ذي الصفحات الممزقة، والرائحة الفريدة. إنه رمز الخلود والمقاومة. يقول السيميائي الفرنسي “رولان بارت” أن النص المكتوب يقاوم، بشراسة، الزمن، على عكس النص الشفهي، المعرض على الدوام للنسيان والضياع.
بمدينة مكناس، بالقرب من كلية العلوم، وبالضبط بحي الزيتون الشعبي. التقيت ثلاثة بائعي كتب مستعملة وقديمة. كتبيون، تتراوح أعمارهم ما بين 56 و65 سنة، همهم الوحيد: توفير مراجع جيدة ونادرة للطلاب والباحثين والقراء عموما.
إلا أن هذه العملية، غالبا ما تتم في ظروف صعبة. فالكتبي، الذي يعرض سلعته في الهواء الطلق، بحثا عن زبناء محتملين، أغلبهم من طلبة جامعة مولا اسماعيل والنواحي، كخنيفرة، آزرو، ميدلت، مريرت، معرض من حين إلى آخر إلى تجرع خسارات تزين الطين بلة.
الكتبي يقاوم الظروف الاقتصادية والاجتماعية وحيدا
” لم أكن لأتاجر في الكتب لولا الظروف القاهرة التي أمر بها.” يقول عبد العزيز، ذي الخمسة والستين سنة، وأب لأربعة شبان، مضيفا: ” لطالما كنت قارئا نهما للكتاب. وعندما راكمت مجموعة لا بأس بها من العناوين، وفي ظل شح الإمكانيات خرجت إلى الشارع، لأبيع ما تيسر منها، وأعيل بذلك نفسي وعائلتي الصغيرة”.
لا تخلو حياة الكتبيين من نكت وتجارب ومغامرات. فهم أناس اجتماعيون، مارسوا هذه المهنة منذ شبابهم. ” كي أكون صريحا معك، أفضل أن أتحدث إلى أناس جدد، لأكتشف كيف يفكرون، كيف يقرؤون، كيف يتصرفون.” يقول عبد العزيز مؤكدا أنه يمقت الحديث إلى نفس الأشخاص يوميا، لأنه ذلك لا يساعده في اكتشاف معلومات جديدة واستلهام أفكار مختلفة.
من جهته، يقول عزيز برحيلة، كتبي ورئيس جمعية نور المستقبل للكتب المستعملة بمكناس “ أسسنا هذه الجمعية سنة 2019، بغرض لم شمل الكتبيين والدفاع عن حقوقهم المهدورة.” عزيز، الذي وصل للتو، بعد سفر قاده إلى إحدى القرى النائية بمدينة شفشاون، حيث كان عليه أن يقدم شهادات تقديرية لبعض التلاميذ المتفوقين، يحكي بحسرة عن معاناته ككتبي في فصل الشتاء: ” لأننا نعرض سعلتنا في الهواء الطلق، فنحن معرضون إلى خسارة عدد مهم من الكتب جراء المطر.”
بالإضافة إلى الظروف الاقتصادية والاجتماعية القاهرة، يعاني الكتبيون من مشكل آخر. ألا وهو الطلب. بحيث تتوقف مبيعاتهم على الطلبة وبعض القراء والباحثين المواظبين على التنقيب عن هذا الصنف من الكتب. ” أحيانا، يمكن أن نبيع 20 كتابا في اليوم. في أحيان أخرى، لا نتجاوز كتابا أو كتابين. مع العلم أن الأثمنة جد مناسبة، تتراوح ما بين 10 دراهم إلى 30درهم.”
أما عبد العزيز، فالمشكل بالنسبة له لا يكمن في القارئ، بل في الأسر والمؤسسات التعليمية التي يجب عليها بناء قارئ وتكوينه. أما في ما يخص الكتب فهي متوفرة. يقول هذا الستيني، الذي يمسك بين يديه كتابا تحت عنوان: ” من الإمبريالية إلى الاستقلال”، للكاتب الفرنسي Gabriel Ardant، يقول:” بعض الطلبة الجامعيين، اليوم، وبالمقارنة مع طلبة سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، لا يجيدون حتى اللغة العربية.” يحكي بحسرة مسترسلا: ” الطلبة والتلاميذ، لايبحثون عن الكتب الفكرية. يكتفون بالمقررات المدرسية والمعاجم.”
كتب التنمية الذاتية، هذه الموجة الجديدة
غير بعيد عن عزيز وعبد العزيز، التقيت السي محمد، الذي يعترف أنه “كتبي من نوع آخر”. يزاول هذا الخمسيني هذه المهنة منذ أواخر القرن العشرين.، “منذ 1984 وأنا أمتهن هذا “الفن”. يقول متناولا بعض العناوين : “عصر البنيوية، من ليفي ستراوس إلى فوكو، ترجمة جابر عصفور؛ “مهدي عميل، نقد الفكر اليومي الأعمال الكاملة؛ “محمد ضريف، الاسلامي السياسي في المغرب”؛ “طه حسين، حديث الأربعاء”…
أمام مكتبته الخشبية، “مكتبة الثقافة “، المرصعة بالزليج المغربي الأصيل، يحكي سي محمد، عن نوعية الكتب التي كانت متداولة في شبابه. ” في الثمانينيات والتسعينيات، كان الناس يقرؤون كتب علم النفس، التحليل النفسي وعلم الاجتماع.” وعندما سألنا السي محمد عن اختيارات الشباب اليوم، أجابنا: ” تشكل كتب التنمية الذاتية، موجة حديثة العهد. يبحث الشباب عن كتب الدعم والتنمية الذاتية من قبيل ” فن اللامبالاة”، “في قلبي أثني عبرية…”.
من جهته، قال عبد العزيز، عندما سألناه، هل القارئ الشاب اليوم في حاجة إلى استهلاك كتب التنمية الذاتية: ” بالنسبة لي، ما يعتقد الطالب أنه دعم نفسي، هو في الواقع وهم. يقول بإصرار، مضيفا: “ربما تساعدهم هذه الكتب في تعلم واكتساب اللغة.”
المعرض الوطني للكتب المستعملة، نحو مأسسة الكتاب المستعمل
تلعب معارض الكتاب دورا أساسيا ولاغنى عنه في التعريف بالكتاب وبالكتاب. لهذا السبب، حمل يوسف بورة، رئيس الجمعية البيضاوية للكتب المستعملة، على عاتقه مسؤولية تنظيم أول معرض للكتاب المستعمل بالمغرب. كان ذلك سنة 2008. “نظمنا إثنتا عشر دورة. وتوقفنا عند الدورة 19، بسبب كوفيد-19. سنة 2022، يقول هذا الكتبي البيضاوي، تم إلغاء الدورة 13 للمعرض، لأننا لم نتوصل بترخيص من لدن السلطات.”
يناشد يوسف بورة المسؤولين عن هذا القطاع، لتسهيل مهمة معرضه، الذي يلم شمل ثلة من المهنيين الذين يحجون من مدن مغربية مختلفة كالرباط، مراكش، برشيد، خريبكة.، ويقدم خدمة للقراء والباحثين القادمين من كل حدب وصوب، ملبيا رغبة وفضول عشاق الكتاب المستعمل، النادر، والأكثر من ذلك “المعروض بأثمنة جد مناسبة.”
“أتمنى أن يكون المغرب أول بلد ينظم معرضا دوليا للكتاب المستعمل”. يضيف يوسف متوسلا.
يقول الشاعر اللبناني مخائيل نعيمة: “عندما تصبح المكتبة في البيت ضرورة كالطاولة والسرير والكرسي والمطبخ، عندئذ يمكن القول بأننا أصبحنا قوما متحضرين”. ما يدل على دور الكتاب، سواء أكان مستعملا، قديما، أو حديث النشر، جديد الغلاف، في تثقيف الأفراد والمجتمعات. وتاريخ البشرية يشهد، على ما قدمته الكتب لمن أحسن قراءتها والعمل بما جاءت به ومن أجله: إخراج البشرية من الظلمات إلى النور.