إنجاز : د . مولاي علي الخاميري
هذا العنوان استخلصته من اللقاء الفكري الذي أقامه موقع : (كش بريس) بشراكة وتعاون مع كلية اللغة العربية بمدينة مراكش صباح يومه الخميس 10 مارس 2022م ، واحتُفِي فيه بالمبدعة التونسية فاطمة بن محمود ، واللقاء عُقِد تحت عنوان جذاب من اقتراح وديباجة أديبتنا المذكورة : ( في البدء كان المغرب ) ومعناه حسب ما جاء في مداخلتها أنها تعتبر المغرب بلدها الآخر وأمها الثانية بعد الأم البيولوجية ، وهي تعترف بأنها استفادت من أعلامه على مستوى المعرفة ، وتعلقت به ، واعتبرته مكانا دالا ، وله وقع الوحي عليها ، وظلاله مشتتة ومتنوعة في دواخلها .
في المداخلات التي تعرضت لإبداع الشاعرة المُحتَفَى بها ، ولاسيما ما يتعلق منه بالشعر استوقفتني مداخلة الأستاذ الدكتور عبد العزيز لحويدق الذي خصصها لثنائيات مضامين شعرها المستفادة من وقائع الحياة المعيشة مثل : ثنائية الحرية والظلم ، والوعي واللاوعي ، والنفي واللا نفي….وقال بأن الأمر لا يتعلق بشاعرتنا التونسية ، وإنما هي سمة عامة في الإبداع المعاصر ، وذكرنا بمجموعة من ثنائيات النقد الحديث ، وبكثير من قواعده التي تساير هذا الملمح العام ، وهذا ما أكدت عليه مداخلة الأستاذ الدكتور : إدريس الخضراوي في دراسته للجانب السردي لشاعرتنا ، وانتهائه إلى القول بأن الأبعاد الذاتية الخاصة حاضرة بقوة في الإبداع المعاصر بفرعيه الشعري والنثري .
هنا تذكرت موقفي العام من عملية القراءة واشتراطي أن تتكيء في كل ملامحها وخطواتها على البعد الذاتي ليس عند المبدع فقط ، وإنما لدى عموم القراء كذلك قصد المشاركة والتفاعل الحي المستمر ما بين عناصر الدائرة الإبداعية وعلى كل المراحل وتجاذبات التجليات والمواقف .
وفي النهاية ومن خلال مجموعة من المناقشات الجانبية وجدت نفسي تذكرني ببعض الخلاصات التي تراود فكري كلما شرعت في عملية قراءة إبداع معاصر ، ويمكن إجمالها في الآتي :
المسألة الأولى : إن قول كثير من الدارسين بأن الشعر المعاصر يُقرأ ولا ينشد معناه أنه لا يومن ولا يحتفل إلا بالأفكار ، ومن شأن هذا المعطى أن يؤدي إلى تشابه المواقف وتقاربها ، وإلى شح وضيق على صعيد مقتضيات اللغة المألوفة والمطلوبة في الإبداع ، كما سيؤدي إلى انعدام مزايا التنوع المستخلصة من ذات المبدع ومعرفته ولغته ، وأن وجودنا الزمني الشامل لنا جميعا ، وتشاركنا من ناحية العيش تحت وطأة تلك الأفكار الواحدة والموحدة سيجعلنا أثناء القراءة نفهم ونتفاعل ما يقوله المبدع ، فكل منا يرجع إلى ذاته في عملية القراءة والتتبع للوصول إلى نقط التلاقي بين المبدع والقراء ، لأن الروابط الجامعة الأخرى مثل التميز اللغوي وتفاوت درجات البراعة فيه قد اختفى من تجارب الإبداع المعاصرة…..
هنا طرحت سؤالا آخر يؤرقني وهو كيف سيكون حال القراء المستقبليين عندما تختفي قواسم المعاصرة الجامعة الآن بين أجيال الطيف الواحد مع العلم أن الأفكار التي نتحدث عنها من قبيل الحرية والحب ، والظلم والكراهية ، والجنة والنار……هي أبدا أفكار سرمدية ، لا يلحقها الاختفاء القسري المفاجئ من الوجود ، وبالرغم من ذلك فالسؤال المطروح لا يقف عند حدود تلك الأفكار في وجودها وإنما في جريانها إبداعا وممارسة عند المبدعين الذين يخضعونها لأمزجتهم ، ويخرجونها على ما تقتضيه تصوراتهم وأفكارهم ومواقفهم ، وعليه فالسؤال المذكور تظل له أهليته وأهميته أثناء تحليلنا لعملية الإبداع .
المسألة الثانية تكمن في الإجابة عن هذا السؤال المحوري : هل عندما فرط المبدع المعاصر في قيمة وقيم اللغة من جهة إلاثراء وغنى المشاهد والقصد….مما يسهم في جعل نظرات القراء كثيرة ، مختلفة ومتنوعة….هل ساهم بوعي أو بغير وعي ونية في التضييق على دائرة الإبداع ، وحرمانها من أكبر ميزة كانت تحسب لها وعليها ، وجعل دور الإبداع يشبه دور الآلة في العمل والإنتاج والاعتبار ، وقزم بذلك من نفوذ مجمع القراء المحتملين ، ومن فُرَص التدخل والمُتَع المنشودة في كل إبداع لَمَّا حاصرها واستوقفها على الأفكار بمعنى الدلالات والمعاني ، ولم يقرنها بتلك الهوامش التي كانت توسع وتضيف ، وتكشف عن خصائص النص وعلى كل المستويات ؟! .
سؤال وجيه جدا وله حضوره وإيجابياته وسلبياته ، وينبغي على المهتمين أن يسعوا للمحافظة على المشترك في عملية الإبداع ، وتكامل كل العناصر بما فيها اللغة بمعناها الواسع لتحديد معنى الوظيفة الإبداعية الوجودية ، وللمساهمة في رَصِّ الصفوف ، والإكثار من نوعية القراء وكَمِّها ، والإبداع على منوال مقبول ، له صلة بماضينا التليد ، وفيه من التجديد والتطوير ما يجعله منفتحا ودالا على المستقبل بنبرة الأصالة والتحديث .