الجبال أقاليم تتميز بصعوبات جغرافية متعددة، كما تتميز سوسيولوجيا وثقافيا، بكونها المعقل الآمن والتاريخي للسكان الأصليين والثقافات الأصلية باعتبارها بيئة راعية لأنماط الإنتاج القبل رأسمالية، لكونها منظومات إنتاجية محلية مسلحة بمرجعيات قيمية صارمة لا تسمح بالتنازلات مهما كانت الحاجات الاقتصادية لهذا المجتمع الجبلي، والواقع أننا أمام مجتمع جبلي تعود على نظام غدائي وإشباعي متعفف وإيكولوجي ولم ينخرط في شراهة استهلاكية مبتذلة.
هذه الأقاليم تبدو للغرباء، من الخارج، موارد مائية ومعدنية مهمة ووجهات سياحية ومنتزهات طبيعية، واحيانا ذاكرة حية للتاريخ الإنساني ومجالا للاستمتاع الإيكولوجي الطبيعي، وفضاءات رحبة لرياضات المشي والتزلج وركوب الدراجات الهوائية والنارية وممارسة اليوغا والتحليق الشراعي وغيرها من الأنشطة الرياضية.
لكننا في الواقع أمام مجال جغرافي واقتصادي بخصوصيات مميزة وبحاجات تنموية وتفاعلية مختلفة، واقع يحتاج منا الكثير من الحدر لتحصين ممتلكاته الذاتية والحفاظ على استقلاليتها أمام مد رأسمالي جارف، بشراسته وقدراته الاستنزافية والافتراسية التي لاترحم.
من هنا فإن أي مقاربة علمية لتنمية هذه الأقاليم، لابد أن تعتمد منهجية متعددة المداخل (الاقتصاد والعلوم السياسية، وكذا الجغرافيا والسوسيولوجيا وعلم النفس الاجتماعي والأنتروبولوجيا، بالإضافة إلى مقاربة قانونية في علوم التدبير المرتبطة بالشأن العام، هذه الأخيرة يجب أن تكون مقاربة تجميعية ومنفتحة على باقي المقاربات السالفة الذكر لضمان تدبير عمومي واقعي وإنساني يضمن الاستدامة الثقافية والاجتماعية للسكان المحليين ويحرر الجبال من عزلتها دون أن يجعل منها سلعة تسويقية تافهة.
أكاديميا، لانجد الكثير من الدراسات التي تعاملت مع هذا الموضوع من منطلق إنساني محافظ على البنيات الاجتماعية والثقافات الأصلية ومنفتح على قيم المعاصرة الرأسمالية في جانبها الإيجابي التنويري والتنافسي والعقلاني ، دراسات علمية لا تنزح نحو إحلال المنطق التسليعي للجغرافيا والثقافة الجبلية للحديث عن مشاريع تنموية تسخر اليد العاملة الجبلية والمقدرات الإيكولوجية والجغرافية والثقافية لآلة استثمارية أجنبية أو وطنية غريبة عن الجبال ولا مجال فيها للحديث عن الشعار التاريخي الذي أعلنته جيرماني فرت فرنر ذات يوم: لا تنمية للاقتصاد الجبلي دون اعتماده على سواعد أهل الجبال وكفاءاتهم وطاقاتهم الذاتية.
نحتاج كذلك إلى إعادة استقراء التجارب الدولية في تنمية الاقتصاد الجبلي الذي أصبحت السياحة الجبلية جزء أساسيا منه والتي اعتمدت معاملة تفضيلية للاستثمارات المحلية بدعمها ماليا وإعفائها ضريبيا وتأهيل العاملين المحليين في القطاع السياحي بالتكوين والشهادات والتعيير الدولي للبروليتاريا العاملة في السياحة الجبلية
لقد تمكنت العديد من هذه التجارب في الاتحاد الأوروبي وكندا والولايات المتحدة الأمريكية من التأسيس لمرحلة جديدة يتولى فيها الفاعل السياحي المحلي دورا رياديا ورقابيا كمتعهد تاريخي بالخدمة عندما يستدعي الاستثمار في الصناعة السياحية الجبلية فتح السوق السياحي الجبلي على موارد مالية واستثمارات جديدة أجنبية سواء تعلق الأمر بالخدمات أو بتوسيع البنيات التحتية.
في هذه التجارب، كانت الدولة أشد حرصا على مراقبة التفاعلات بين أهالي الجبال حماة الثقافة الجبلية الأصيلة وتداعيات النشاط السياحي وتأثيراته المالية والثقافية.
الدولة كانت حاضرةكذلك في هذه التجارب، وبقوة، لتأمين تجهيزات الصناعة الشبكية من طرق وخطوط السكك الحديدية والتليفريك المعد لأغراض الربط التجاري ومحطات الهيليكوبتر والرصد الجوي وأرضيات الطيران الشراعي والخفيف والرياضي وال ULM ومحطات المناطيد وتهيئة قنوات اصطناعية للنقل النهري ووضع ضوابط خاصة بتمديد الطرق الجماعية والإقليمية الجبلية تستجيب لحاجيات التدفق الطرقي حسب التجمعات والحركات التسكانية، هذا بالإضافة إلى تواجدها إلى جانب الجماعات المحلية كفاعلين عموميين رئيسيين يتوليان ضمان وتوفير باقي شبكات الكهرباء والهاتف والأنترنيت والماء الصالح للشرب والغاز والتوزيع بمختلف أشكاله وكذا شبكات الصرف الصحي والتطهير.
إلى جانب ذلك، سنلاحظ أن هذه البلدان، وإن تركت الحرية للسكن الفردي داخل المجال الجبلي في إطار القوانين المعتمدة في هذه البلدان، فإنها حمست في نفس الوقت، سكن التجمعات بتوفير خدمات التطبيب والإسعاف والتعليم العمومي وتحفيز أنشطة جديدة للشغل داخل هده التجمعات ( شركات محلية لليد العاملة القروية) والمتاحف ودور الثقافة والموسيقى ووحدات الاقتصاد الاجتماعي والشعبي وخدمات تغليف وتخزين المنتوجات الجبلية، وهو ما جعل من هذه التجمعات الجبلية مراكز زاخرة بالحياة التبادلية والأنشطة الإنسانية المختلفة ومشعة كذلك بالتعبيرات الثقافية والإبداعية المحلية.
في المغرب، وبمناسبة انطلاق مشروع إعادة إعمار المناطق الجبلية المنكوبة بالزلزال الأخيرالذي أصاب هذه المناطق بأقاليم الحوزو تارودانت وشيشاوة وأزيلال وورزازات، نحن مطالبون اليوم، باستحضار هذه المنطلقات النظرية أولا، وذلك بأن يكون مشروع إعادة الإعمار مشروع وطنيا متكاملا، يتوخى تنمية الجبال بأهلها ولأجلهم ويحصن الأقاليم المنكوبة من نزوات الارتزاق والنهب الفاسدة والمفسدة لأي مشروع تنموي، كما يجب تأطير هذا المشروع علميا ونظريا كي لا يكون عرضة للمزاجيات والمغامرات السلطوية غير المحسوبة.نحن مطالبون ثانيا، باستحضار التجارب المبدعة لإعادة الإعمار في جبال الاتحاد الأوروبي وأمريكا الشمالية، والتي انطلقت من معالجة ديموقراطية مواطناتية لضمان الخدمات الأساسية والبنيات التحتية لأهل الجبال ليس لإنعاش سوق سياحي جبلي وتسويق المنتوجات الجبلية فقط، وإنما لتأكيد حضور الدولة ورعايتها وضمانها للمرافق العمومية اللازمة للعيش المشترك.