(سرْدُ الأنا ، الثأر الرمزي للذات)
مع نهاية الألفية الثانية وبداية الألفية الثالثة ، وتزامُنا مع بوادر الانفراج السياسي في المغرب وذوبان الجليد بين الحكم واليسارالمعارض ، تواترت على المشهد الثقافي المغربي كتاباتٌ وإصدارات مختلفة ومؤتلفة في آن تنحو منحى السيرةالذاتية والمذكرات والحوارات وبوح الأنا بشؤونه وشجونه وذكرياته ومواقفه .. وكان عقد السبعينيات المُلبّد بالملاحقات والاعتقالات والموسوم بسنوات الجمر والرصاص ، بمثابة الأرضية والمرتع الخصب لهذا البوح الأوتوبيوغرافي .
ومع إطلاق سراح المعتقلين والسجناء السياسيين وتأسيس ( هيئة المصالحة والمناصفة )
سنة 2004 ، بدا كأنّ سراحا موازيا شمل الكتابات الأوتوبيوغرافية لتستعيد ماضيها
وتنفض ذاكرتها الكظيمة . ودخلت على خطها تباعا أسماء من كل حدب وصوب .
وكان القاسم المشترك بين هذه الكتابات والإصدارات في الأغلب الأعم ، مجسّدا في
“السياسة ” الملغومة بتضارب المواقع والمواقف والمصالح ، والمعرّضة دوما لهبوب
العواصف والزوابع في مغرب متحوّل في ثباته وثابت في تحوله ، تدير كواليسه نُخب
سياسية موصولة السلطة تلبس لكل حال لبوسها .
ومع هذا القاسم السياسي المشترك ، تتعدّد وتختلف مشارب وهويّات الكتاّب والساردين
لهذه الإصدارات والكتب الأوتوبيوغراافية ، حيث يتوزعون إلى /
كتاّب وأدباء – عسكريين – قادة أحزاب سياسية – سياسيين نافذين – رجال دين –
كتابات ومحكيات بتاء التأنيث ..
إن هذا البوح الأوتوبيوغرافي المغربي أضحى يشكل في نسخته السياسية ، ظاهرة أدبية –
سياسية تحتاج إلى قراءة وتأويل .
ولعل القراءة الأولية والبدهية لهذه الظاهرة ، تشير إلى أن ” كِمامات ” تاريخية نُزعت عن
أفواه النّخب المغربية وأن ” الحُبسة ” المخزنية المضروبة على هذه الأفواه قد فكّت نسبيا
فانطلقت من عِقال ، لتنفّس عن ذات نفسها في هذا الاتجاه أوذاك .
هذا بالضبط هو ” الكاطارسيس ” التطهيري الأرسطي catharsisالذي يشفّ عنه هذا
البوْح الأوتوبيوغرافي الماطر ، بعد أن تخفّف من فُوبيا الماضي .
والكل في نهاية المطاف ، يعزف على أناه وينفّس عن معاناته وبلْواه ويبرئ ذمّته وساحته
نسبيا أو ضمنيا ممّا لحقه من حيف وجور .
الكل في نهاية المطاف ، يجعل الكتابة ثأرا رمزيا للذات من تاريخ ملغوم وملتبس دارت
رحاه السياسية بقسوة ، وكان مسرحه مليئا بالجلادين والضحايا والمُناورين والانتهازيين
والمُخبرين والمشّائين بنميم ..
وجميل في حالة المغرب أن تكون الكتابة نافذة إغاثة وتصريف ومراجعة ومُساءلة .
علما بأن المغاربة تاريخيا ، لم يكونوا مجتمعا ألفبائيا مثقفا يحفل بالكتابة ، بل كانوا مجتمعا
أمّيا في كثرته الكاثرة يخضع لسلطة الحكام والفقهاء .
وأن النخبة المثقفة والسياسية الحديثة في المغرب لم تنتبه لأهمية المذكرات والبوْح
الأوتوبيوغرافي ، إلا بعد المثاقفة المشرقية والغربية ووعي هذه النخبة بأهمية وفاعلية
ومردودية هذه الكتابة بصدد تحصين المواقع وتعزيز المواقف في حلبة الصراعات
السياسية التي هزّت وأجّجت مغرب الاستقلال وما بعد الاستقلال .
ومن ثم كانت كتابة المذكرات والسيرالذاتية والحوارات حَكرا على أنتلجنسيا الحركة
الوطنية . ونستحضر هنا عناوين بارزة ، تمثيلا لاحصرا وتنويرا لذاكرة الأجيال المغربية
الجديدة ، لقادة وأسماء بارزة من قبيل /
مذكرات علال الفاسي عن ( منفى الغابون ) – ومذكرات محمد بن حسن الوزاني (حياة
وجهاد ) – ومذكرات المختار السوسي ( معتقل في الصحراء ) – ومذكرات محمد داود
(على رأس الأربعين ) و ( على رأس الثمانين ) – ومذكرات عبد الله كنون ( مذكرات
غير شخصية ) – ومذكرات أبي بكر القادري ( مذكرات في الحركة الوطنية ) –
ومذكرات عبد الكريم الخطابي ( مذكرات لا ريونيون ) – ومذكرات عبد الرحيم بوعبيد
( شهادات وتأملات ) – ومذكرات المحجوبي أحرضان ( مذكراتي ) – ومذكرات بنسعيد
آيت يدر(هكذا تكلم بنسعيد ) – ثم مذكرات عبد الرحمان اليوسفي الصادرة مؤخرا (أحاديث
في ما جرى ) .. هذا دون أن نغفل في هذا السياق روايات – سيرية لكثيرمن الروائيين
المغاربة . باعتبار أن السيرة الذاتية للكاتب مغنطيس تحت الصفحة ، حسب تعبيرروبير
دي فوتو .
ولعل الفترة الساخنة لانعطافة الكتابة الأتوبيوغرافية المغربية صوب أدب السجون
والاعتقال ، هي الفترة الموسومة بسنوات الجمر والرصاص وما تلاها ، وقد تمخّضت عن
عناوين سيرية لافحة ولامعة شدّت إليها اهتمام القراء ، اشترك في كتابتها وهذه من
عجائب السبعينيات ، مثقفون يساريون وضباط عسكريون ، نذكر منها تمثيلا كالعادة /
– ( كان وأخواتها ) و ( الساحة الشرفية ) و( دليل العنفوان ) .. لعبد القادر الشاوي الذي
يعد بحق مُدشن السيرة الذاتية السجنية ورواية التخييل الذاتيAutofiction في المغرب .
( العريس ) لصلاح الوديع – ( يوميات سجين متوسطي ) لحسن الدردردابي – ( أفول
الليل ) للطاهر المحفوظي – ( تذكرة ذهاب وإياب إلى الجحيم ) لمحمد الرايس –
(الزنزانة رقم 10 ) لأحمد المرزوقي – ( حديث العتمة ) لفاطمة البيه إلخ ..
أزعم أن هذه العناوين التمثيلية المُستحضرة في هذه الورقة ، كافية لتقديم صورة أولية عن
مسار الكتابة الأوتوبيوغرافية وخطها التصاعدي في المغرب ، وفي الآن ذاته تقديم صورة
عن مسار مغربي مزروع بالكمائن والمطبّات .
وبعد هذا التّطواف السريع حول هذه العناوين ، أودّ تسطير الملحوظات والهوامش التالية /
1 / تتفاوت أشكال هذه الكتابة في الأغلب الأعم ، بين السيرة الذاتية والمذكرات
والحوارات المسجلة التي يتقاسمها الأنا السارد والأنا الكاتب . وثمة تفاوت عطفا في هذه
الكتابة بين القيمة الأدبية – الجمالية والقيمة التاريخية – الوثائقية .
2 / يمثل الأنا السارد في هذه النماذج قطب الرحى والمُمْسك بدفّة السرد لا ينازعه أحد .
ومن ثم تهيمن تصفية الحساب مع وقائع وأحداث وشخوص بأعيانها أو رموزها ، من حيث
تغيب ، إلاّ فيما ندر ، تصفية الحساب مع الذات .
من هنا خلو الكتابة الأوتوبيوغرافية المغربية من ( النقد الذاتي ) و ( أدب الاعترافات ) .
3 / ساعدت أجواء الانفراج المُمنْهج الذي خلفته ( هيئة المصالحة والمناصفة ) ، مشفوعة
بالأجواء الإعلامية الحرّة لشبكات ومواقع التواصل الاجتماعي ، على انخراط السياسيين
والمثقفين ومختلف النّخب الاجتماعية والوطنية ، في كشف أوراقهم والإدلاء بدِلائهم ،
في الفارغ أو المليان .
4 / لا شك في ان نماذج متميزة من الكتابة الأوتوبيوغرافية المغربية ، قد اجترأت على
كشف المستور ومقاربة المحظور . لكن يظل هناك دائما مكان شاغر للمسكوت عنه
واللاّمفكرفيه . مما ينمّ عن فوبيا المُكاشفة والمساءلة والنقد .
إن الكتابة الأوتوبيوغرافية المغربية لا تكشف المستور كاملا . لا تزيح ستارة السرد إلى
آخرها . بل ثمة باستمرار ” تقيّة ” سردية وسياسية مخزنية تسكنها وتلجم ألسنتها وتكبح
من جِماح وحرية بوحها .
5 / مع هذه الملحوظات والهوامش ، نقول إن الكتابة الأوتوبيوغرافية المغربية ، بكل
أشكالها وتجلياتها وأحوال طقسها ، ” غنيمة ” تاريخية ووثائقية للتاريخ المغربي ، وأجياله
القادمة .
وتلك الأيام نُداولها بين الناس .