والحسين القمري، بكل الجدارة المجازية والدلالية ، قمر إبداعي- وإشعاعي أضاء سماء الريف وسماء الناظور بخاصة ، بعد فراغ أو بياض إبداعي طويل ران على هذه السماء ، إلا من أهازيج وأغانٍ ريفية تصدح هنا و هناك ، على الفطرة القروية الموروثة .
لقد كان الحسين فاتحة لحراك ثقافي حديث في المنطقة ، وبشارة لمواسم أدبية وثقافية آتية، كان غارس بذورها وحارس مشاتلها .
كان ربيعا ثقافيا، بعد بيات شتوي طويل. وهو يودّعنا ، يطلّ من علياء عمره ورحلته ، على مدينته الناظور، يُعاين كيف أضحت على أيدي خلَفه وعَقِبه، قبلة للأنظار ومحجّا ثقافيا لملتقيات أدبية وإبداعية، وطنية وعربية… وقد كانت على امتداد عقود نسياً منسيا، منْكفئة على همومها وشجونها الخاصة، كجارة جُنب، وذيل و تكْملة لرفيقتها المحتلة / مليلية .
وأكاد أجزم، أنه قبل الحسين القمري لم يكن ثمّة شاعر أو مبدع حديث في الناظور، بلسان الضّاد.
لم يكن ثمة معطف شعري تلتحفه الأجيال الريفية الصاعدة. فأهل الريف خائضو غمار، لا قارضُو أشعار.
فهو لذلك ، الرائد والماهد للشعر العربي الحديث ، في منطقة الريف بأسرها .
هذه غُرّة أدبية – تاريخية على جبين الحسين وعلى جبين المنطقة .
هذه غُرّة مغربية بامتياز .
مع إطلالة الحسين القمري المبكّرة وحضوره الدؤوب ، بدأ الانتعاش الثقافي في حاضرة الناظور، بعد حاضرة وجدة .
كان الفتى القمري ، في تلك الأيام الخوالي ، معبّأ بطموح جديد وعزم حَديد .
كان ثمة ” كاريزما” الحسين القمري .
كاريزما شخصية – ريفية – عفوية ، أوتيها الرجل سجيّةً .
لا أقصد بالزعامة – الكاريزمية هنا، غلظة في الطباع و هيْمنة أو أبّهة …
بل قوة إنسانية وشهامة روحية تنبعان من شخصيته ، فهو إنسان بالغ الدماثة جمّ
التواضع سمْح السجايا رقيق الشعور .
لأن /
مليئات السنابل ينحنين تواضعا
والفارغات ، رؤوسهن شوامخ
وفَد علينا الحسين القمري تاريخيا وأدبيا، منذ طلائع الستينيات من القرن الفارط .
فهو لذلك ، من رواد الحداثة الشعرية في المغرب .
ولقد دأبنا في مقارباتنا التاريخية – والتوثيقية للريادة الشعرية – الحداثية في المغرب، على ذكر أسماء بأعيانها ، كأحمد المجاطي، ومحمد السرغيني ، وعبد الكريم الطبال ، ومحمد الميموني ..على سبيل المثال..
وللأمانة التاريخية والأدبية نقول ، إن الحسين القمري ، ساهم أيضا وفي فترة مبكّرة في هذه الحداثة ، بصمت و نسُك ونُكران ذات.
وربما كان بعده عن المركز، وبقاؤه في الهامش (الناظور)، وعزوفه الشخصي عن الأضواء والشهرة ، وراء هذا السكوت والإغضاء .
لكن صوت الشاعر، حاضر في معزوفة الحداثة . وأعماله الشعرية الكاملة ، الصادرة عن وزارة الثقافة، آية ساطعة على ذلك .
أعمال جميلة – جليلة ، نأمل أن تكتمل بأعمال أخرى، فجراب الحسين وافرُ الزاد .
والحديث عن الحسين القمري ، من قبلُ أو من بعد ، هو حديث عن مُفرد عصامي متعدّد . فهو شاعرمبدع ، لغة ووزنا وقافية ورسالة ، وكاتب مسرحي، وباحث ثقافي، وصحفي رائد ، ورجل قانون وحقوق، ورجل تعليم و تربية ، ومناضل سياسي – تقدّمي ، في السنوات الصعبة ..
لكن تبقى الصفة الأصيلة – النبيلة و الجميلة في الحسين القمري ، هي أنه شاعر وإنسان .
ولا يستقيم ويكتمل الحديث عن القمري، إلا بالإشارة – التنويهية إلى خصلة إنسانية رائعة وراسخة في طباعه و مكوّنة لشخصيته، و هي خصلة الكرم والأرْيحية .
إن كرمه حاتمي بامتياز ، وفي كرمه ” شعرية ” خاصة .
ويده سبّاقة دوما إلى جيبه . سباقة دوما إلى مكْرمات .
لا يسمح لأحدٍ قطّ ، بأن يضرب يده في جيبه ، إذا كان حاضرا في مجلس ، ولو
كثُرعددا . وطالما اعترضتُ عليه في كثير من المناسبات، فيكون جوابه /
– يا أخي ، لا تحرمني من هذه المُتعة ..
وأنعمْ بها من مُتعة ، هذه التي تُعيدنا إلى أريحية حاتم الطائي و طرفة بن العبد ..
وأكارم الأعاريب والأمازيغ ..
وبعد /
أيها الشاعر القمري الريفي الأصيل ، كأنك صرتَ في آخر أيامك في غير سِرْبك ، فالتحقتَ بأقمارنا الأصيلة التي غادرتنا تباعا في الزمن الكوروني التعيس ، وكانت أنسا لوحشتنا وضوءا لعتمتنا ، وعمّتنا من بعدها جوائح الأوبئة الصحية والفكرية والسياسية ؟
فلا ندري أنرثيك ونرثيها ، أم نرثي واقع الحال والمآل ؟
ليس من مات فاستراح بميْتٍ / إنما الميت ميّت الأحياء