بقلم/ د. التجاني بولعوالي ـ
ما انفكت تداعيات ضياع فرصة مرور أسود الأطلس أمام الديكة إلى المباراة النهائية لمنافسات كأس العالم الجارية في قطر تُلقي بظلال الحزن والحسرة والأسف على كل مغربي وعربي وإفريقي ومسلم. فانقسمت آراء الناس حول ما حصل، وتناسلت تأويلات وسائل الإعلام، وتضاربت تفسيرات الرياضيين. هناك من اعتبر هزيمة النخبة الوطنية أمرا عاديا، جاء نتيجة تعب المباريات السابقة التي أرهقت اللاعبين وألحقت الإصابات ببعض الوجوه الأساسية. وهناك من يُحمّل بعض المسؤولية سواء الناخب الوطني الذي أقدم على تعديلات ليست مناسبة، أو بعض اللاعبين الذين ارتكبوا أخطاء دفاعية أو هجومية قاتلة. وهناك من رأى في المنتخب الفرنسي خصما قويا يتألف من لاعبين عالميين يتمتعون بلياقة بدنية عالية وتاريخ كروي حافل بالألقاب، وآخرها كأس العالم في 2018 والدوري الأوروبي في 2021. وهناك من يعلق هذه الهزيمة على مشجب التحكيم الذي حرم أسود الأطلس من ضربتي جزاء، ومنح اللاعب بوفال بطاقة صفراء جائرة، ولم يعد إلى تقنية الفار. وهناك من ذهب بعيدا في تفسيره حيث اعتبر ما حصل مؤامرة مدروسة للإطاحة بالمنتخب الوطني المغربي لمواقفه الشجاعة في الدعوة إلى الإسلام وترسيخ قيم الأسرة والأمومة والدفاع العلني عن القضية الفلسطينية. وما قد يعزز هذه الفرضية هو حضور الرئيس الفرنسي بنفسه إلى قطر لمتابعة المباراة وجلوسه مع رئيس الفيفا.
وأعتقد شخصيا أن أغلب هذه التفسيرات تحمل بعض الصواب إذا نحن محصناها على محك المنطق والعقل بعيدا عن العاطفة والانفعال، فالتعب كان ظاهرا على لاعبي المنتخب الوطني والإصابات قللت من فعالية بعضهم. ومع ذلك فأسود الأطلس أبلوا البلاء الحسن، وكانوا الأفضل من حيث اللعب الجماعي والفنيات الفردية والمشتركة. وأداء بعض البدلاء لم يكن في المستوى المنشود، لا نعرف هل بسبب الخوف وتحطم المعنويات أم أنهم لم يستطيعوا أن يقدموا أكثر مما قدموه. أما المنتخب الفرنسي فلا يمكن الاستهانة به، لاحتوائه لاعبين على جودة عالية؛ لياقة وسرعة وتكتيكا. وعادة ما يقال أنه ليس منتخب فرنسا، بل منتخب العالم لاحتضانه لاعبين من أصول متنوعة يتلاشى معها الطابع الفرنسي الأوروبي. التحكيم بدوره لم يكن في مستوى هذه التظاهرة الكونية، وهذا بشهادة رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم نفسه، الذي أشار في تصريح له إلى أنه تحدث أخطاء في التحكيم، وقد جاءت تقنية “الفار” لتساعد الحكام في أداء مهمتم، لكن لم يقل شيئا عن سبب عدم استعمال هذه التقنية في هذه المباراة الحاسمة! وفي الأخير، يُحتمل إلى حد ما حضور ما يشبه المؤامرة أو على الأقل النية المبيتة في هذه المباراة. وهذا ليس بغريب، لأن بعض الجهات الغربية السياسية والإعلامية النافذة شنت (وما تزال) حربا شعواء على تنظيم قطر لكأس العالم، وحاولت عبر شتى الوسائل وتذرعا بمختلف الأسباب عرقلة هذه التظاهرة، وما بالك والمنتخب الوطني المغربي. فالذي يفكر ويخطط لنسف كأس العالم برمته، لن يصعب عليه بتاتا نسف منتخب كروي لم يكن يذكر قبل بضعة أسابيع إلا بشكل عرضي في وسائل الإعلام الغربية.
ومع ذلك كله، فهناك شريحة غربية مهمة لا يخلو منها بلد أوروبي وغربي ترفض جملة وتفصيلا الاستعلاء الثقافي والسياسي والعسكري الغربي على باقي العالم العربي والإسلامي والثالثي. رصدتُ اليوم انطباعين لدى الأصدقاء والزملاء البلجيكيين الذين التقيتهم هذا الصباح في العمل. أولها الحسرة العميقة على خسارة المنتخب الوطني المغربي، الذي صنع حدثا استثنائيا “عارما” لم يتوقعه أي خبير إعلامي أو مُنظر ثقافي أو محلل استراتيجي. الانطباع الثاني هو أن أسود الأطلس جعلوا العالم يتمتع بلعب كروي ماتع وروح رياضية رفيعة وفرجة تنضح بهجة وعفوية وأريحية.
ويمكن أن نضيف انطباعا ثالثا، وهو أن شبابنا قدموا دروسا عظيمة للإنسانية في الأخلاق الكريمة والمعاملة الحسنة والتسامح والتعايش. ونعتقد أنه سوف تكون لهذه الدروس تداعيات إيجابية، سواء على نظرة الذات إلى نفسها وقدراتها الكامنة أو على صورة الإسلام والمسلمين لدى الآخر الغربي والشرقي على حد سواء. وأُجمل بعض هذه التداعيات في النقاط الآتية:
- سوف يغير الكثير من الإعلاميين الغربيين ولو بشكل نسبي طبيعة التعاطي العنصري والإيديولوجي مع قضايا المسلمين والأجانب.
- سوف تدرك البلدان الأوروبية والغربية التي يعيش فيها المسلمون قيمة الكفاءات المسلمة، ليس في الرياضة فقط، بل في مختلف المجالات، فتقدر إنجازاتهم ومشاعرهم وتطلعاتهم.
- سوف يشكل لاعبو المنتخب الوطني المغربي قدوة للأجيال المغربية والعربية والمسلمة وغير المسلمة الصاعدة. لا نقصد القدوة المادية كما عند مشاهير اللاعبين، بل القدوة الأخلاقية والروحية والوطنية التي قلما تحضر لدى أصحاب الجاه والسلطان والشهرة.
- سوف تتعزز محبة المغاربة لوطنهم المغرب أكثر من ذي قبل، سواء في الخارج أو في الداخل، فيسعون إلى خدمته، ويجتهدون في تمثيله، ويجهدون في الدفاع عن ثوابته وحدوده.
- سوف يدرك إخوتنا العرب في المشرق حقيقة الهوية المغربية التعددية التي تتجذر تاريخيا وواقعيا في الأرومة الأمازيغية، حيث اختار أجدادنا البربر دين الإسلام لعدالته وتسامحه ورحمته، واحتضنوا اللغة العربية لفرادتها، فخدموها إلى أقصى الحدود، لكنهم في الوقت ذاته وقفوا بالمرصاد في وجه “الجيوش الغازية”، التي لم يكن الشغل الشاغل لقوادها إلا سبي الحرائر وجمع الجبايات والتنكيل بالأبرياء.
- سوف يدرك إخوتنا العرب والأفارقة والمسلمون أنه يمكن أن يعول دوما على المغرب، فهو رقم أساسي لا يمكن الاستغناء عنه في العلاقات الدولية والتوازنات السياسية والتجارب الدينية والثقافية والاجتماعية، وأيضا الرياضية.
- سوف تعيد الجهات الرسمية المغربية (وهذا ما نتمناه!) النظر في طبيعة تعاطيها مع مغاربة أوروبا والعالم عامة والأجيال الأخيرة الصاعدة خاصة، التي ينتمي إليها أغلب لاعبي المنتخب الوطني المغربي، وعلى رأسهم المدرب الظاهرة وليد الركراكي. فإذا كانت أجيال الهجرة الأولى والثانية أعطت (وما تزال تعطي) الكثير للوطن، فإن الأجيال الأخيرة، وهم أبناؤنا الذين ولدوا في المهاجر، لم تخذل الوطن، بل إن حضورها المشرق والمشرف في منافسات كأس العالم الجارية في قطر يؤكد بما لا يدع أي مجال للشك تعلقها الوثيق بجذورها المغربية والتضحية الجسيمة من أجل ترسيخ الولاء لوطن أجدادها وآبائها.
لذلك، دعونا نحتفل بأسودنا الأطلسية، فلكل جواد كبوة يتعلم منها، ولكل فارس غفوة ينهض منها قويا. دعونا نفتخر بإنجاز المنتخب المغربي التاريخي الغير مسبوق في المنطقة العربية والإفريقية. فالمغرب؛ منتخا وجماهير وشعبا كشف للعالم عمن يكون، وعن حقيقته التي ظلت مطموسة تحت أنقاض الإعلام والمساومات الإيديولوجية. والعالم بدوره اكتشف أن ثمة أمة مغربية عظيمة تستحق الاحترام والتقدير ورد الاعتبار.
فلنستشرف المستقبل بأمل وتفاؤل وثقة. إن القادم يبشر بالخير العميم للمغرب والمنطقة إن شاء الله تعالى.